كمّاشة الشارع والملك

مرّ يومان كاملان على الخطاب الذي ألقاه الملك مساء الجمعة 10 أكتوبر 2025، في افتتاح السنة التشريعية الأخيرة من ولاية حكومة عزيز أخنوش، وهي مدة تبدو كافية كي نخرج من “الحالة العاطفية” إلى طرح الأسئلة الحقيقية قبل أن تبرد (بالكامل) الدينامية التي أطلقها شباب “جيل Z”.
وكما كنا نردّد دائما، أن على الذي “يحبّ” الملك فعلا أن يقول له الحقيقة، أي دون تملّق ولا نفاق ولا خوف، فإن من “يحبّ” شباب “جيل Z” مطالب أيضا بأن يعفيهم من تحمّل ثقل خيباته وهواجسه وأحلامه وربما أوهامه…
وحتى أعفي القارئ من عناء التأويل والاستنتاج، أنا أعتبر الملك حليفا موضوعيا وضروريا في أي تحوّل إصلاحي يمكن أن يعرفه المغرب.
لا أنطلق في ذلك من حكم قيمة أو إسقاط على شخص الملك، بل لكون أولوية الملك بطبيعته، أي ملك، هي استقرار واستمرار نظامه، والعلوم السياسية والاجتماعية لم تكتشف حتى اليوم وصفة أكثر نجاعة وأقل كلفة في تحقيق هذا الاستقرار، من تلك التي تتضمن الديمقراطية، والعدالة، والتمكين للحقوق والحريات.
لكن الملك بطبيعته ليس مناضلا. نعم يمكنه أن يكون متنوّرا أو صاحب ميول إصلاحي، لكنه حين يواجه سؤال القيام باختيارات آنية، فإنه يغلّب تلك التي تضمن أولوية الاستقرار والاستمرار على الخيارات التي تنطوي على مجازفات أو مآلات غير مضمونة.
وحتى يختار الملك التحالف مع الإصلاحيين فإن ذلك يتطلّب، إلى جانب ميوله الإصلاحي، توفّر حالة تعبئة تقدّم ما يكفي من ضمانات عن قدرتها على التغيير مع الحفاظ على الاستقرار، في مواجهة قوى المحافظة والدفاع عن الامتيازات القائمة.
بالتالي يصبح الوضع الوحيد القابل لتحقيق ثنائية الإصلاح والاستقرار، هو التقاء دينامية صاعدة مع إرادة ملكية، وهو ما عشناه مع الحركة الوطنية في عهد الاستعمار، وهم بالمناسبة كانوا شبابا أيضا؛ وأذاقنا كل من شباب حركة “20 فبراير” و “جيل Z” بعضا من بوادره حين أعاد للشارع روحه المبادرة والمؤثرة.
لقد قام هذا الشباب بما عجزنا عنه طيلة عقدين ماضيين على الأقل، وأحيا فينا الأمل وحرّر منّا العقول والألسن، لكن علينا أن ننتبه إلى سلوكنا، كي لا نظلمه بتحميله مسؤولية تحقيق كل ما عجزنا عنه منذ الاستقلال، أو نحوّله إلى مجرّد قناة للتنفيس وتفريغ سيول جارفة من “الكلام” الذي يدغدغ المشاعر ويخلق النشوة، لكنه بمفعول عابر وغير منتج ولا يبني أفقا جديدا.
نحن أمام لحظة لا تُختزل في زخم عاطفي ولا في موجة عابرة. وما يتشكّل اليوم في المغرب أقرب إلى نافذة إصلاح حقيقية لأن الوسط السياسي وُضع أخيرا بين ضغطين متزامنين: من أسفل يرتفع صوتٌ واضح ومحدّد المطالب، ومن أعلى تُعاد هندسة البوصلة بمعيار جديد اسمه شرعية الأداء.
يتعلّق الأمر بحالة ضغطٌ اجتماعي معقلن من أسفل ورعاية سياسية عليا من أعلى، يفتحان النافذة ويحددان كلفة التعطيل على الوسطين التنفيذي والحزبي.
هنا يضع المفكّر الألماني-الأمريكي ألبرت هيرشمان اصبعه على العصب الحساس، ويقول إن المجتمع يختار، أمام الأعطاب، بين ثلاث حالات هي:
• الانسحاب أو “الخروج” (Exit) عبر الهجرة أو الانكفاء؛
• أو الصوت (Voice) أي الاحتجاج والتعبير عن الغضب؛
• أو الولاء (Loyalty) الذي يعبّر عن حالة “الرضا” الإيجابي، أي السكون مع الاستعداد للعودة إلى حالة “الصوت”.
“جيل Z” اختار حالة “الصوت” داخل الوطن لا الانصراف إلى اللامبالاة والهجرة. وعلى باقي “الإصلاحيين” الخروج معهم، ليس إلى الشارع بالضرورة، لكن بالمبادرات وتشكيل التحالفات التي تحافظ على الزخم وتوفّر فرص الإنجاز.
لا أجد شخصيا أي طعم أو معنى لرفع شعارات كبيرة في وقت لا نحقّق فيه أية إنجازات، مرحلية لكنها أساسية، مثل تحصين الحقوق المدنية والسياسية من التضييق والإفساد باستعمال القوة والتضليل الإعلامي، وإنصاف المعتقلين المظلومين، سواء القدامى أو الجدد.
أما من جانب الدولة، وحتى يتحوّل هذا الصوت إلى “ولاء” بمعناه المقصود عند هيرشمان، لا بد من دلائل مصداقية سريعة تقول للناس “لقد سمعنا وبدأنا وهذه نتائج مرحلية يمكن لمسها في المستعجلات وفصول الدراسة وسوق الشغل”.
مسؤولية الشارع أن يحافظ على حالة “الصوت” إلى أن تتحقق الاستجابة، ومسؤولية الملك أن يقوم بالتفاعل الذي يحول دون الخفوت التدريجي لهذا “الصوت” إلى أن يصبح انسحابا.
إذا طال الفراغ بين القول والفعل الملموس، يعود مزاج الانسحاب وتتآكل الثقة وتضيع الفرصة. لذلك، فإن الخطاب الملكي في افتتاح البرلمان، وإن لم يتفاعل بشكل مباشر، فإنه تطرّق وبوضوح إلى جوهر المطالب التي عبّر عنها الشارع، وتحدّث عن الخلل في توزيع عائد التنمية، وربط المشاريع الكبرى (مثل المونديال) بتحقيق العدالة الاجتماعية.
بقي أن تتحوّل هذه الاستجابة إلى لوحات قيادة علنية للصحة والتعليم والشغل، وآجال مُلزمة في بوابة تظلّم وطنية موحّدة، ولجان تقصّي بآجال قصيرة وتقارير منشورة… هذه ليست كماليات تقنية؛ بل مفاتيح ترجمة الصوت إلى ولاء، والاحتجاج إلى ثقافة أداء.
بهذا المعنى، علينا أن نغادر محطة التفكير بمنطق الصدام الصفري الذي يضع شباب “جيل Z” في مقابل الملك، ويفرض عليهم دورا معاكسا لما يمكن للشارع أن يقوم به في سياق إصلاحي، لا ثوري.
علينا تجنيب هذا الشباب كل سلوك انتهازي، لأن كل من يمكنهم ممارسة هذه الانتهازية سبق لهم تجريب الفشل. وفرصتنا في خلق “كماشة ضغط” مُنتجة، أي صوتٌ سلميٌ معقلن من أسفل، وبوصلة نتائج من أعلى، يضغطان بكل قوة على هذه الفئة التي تشكّل في اعتقادي أصل الداء، أي كل ما يمكن أن يتقاطع مع الطبقة المتوسطة، أو تلك الفئة الماسكة بزمام الوسائط، وتوظّفها بمنطق الاستفادة الذاتية، والمطالب الفئوية، والرؤية قصيرة المدى، والتي لا تتجاوز أرباح نهاية السنة أو أجرة نهاية الشهر، أو التقاعد المريح.
إذا مارسنا هذا الضغط بفكي الكماشة، والتقط “الوسط” هذه اللحظة بعقل وانضباط، يتحوّل الصوت إلى ولاء، والحدث إلى مسار.
وإن نحن عدنا إلى منطقة الراحة وسحبت التجارب الفاشلة شباب “جيل Z” إلى دائرتها بدل الذهاب إليها، ستغلق النافذة كما فُتحت: فجأة ودون سابق إنذار.