story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

قُلْها الآن أو اصمت

ص ص

هل يلْزَمُكَ يا كاتبَ هذه السطور أن تُجمّل اللغة، وتغطيها من كل عيبٍ، حتى تُعجِب، أو لا تُغضِب، بين يدي الإبادة؟.

وهل يَلْزَمُ أن يُعتقل العقل، كلّ مرة، في حسابات الجيوبوليتيك، وتعقّد المصالح، وتنامي المخاطر، وتشابك العلاقات الدولية، ليُفَذْلِك في بناء موقفٍ “فاقعٍ لفرط بداهته” لا يحتاج كل هذا التعقيد؟

سيتذكّر العالم طويلاً هذه الحقبة السوداء، ويوماً سيقدّم كل أحدٍ كشف حسابه، ومعدّل إنسانيته، أو رقم شقاوته.

عَجَبي ممن ليس حاكماً، ولا وزيرا أو “غفيراً”، ويحمل جبالاً من التبريرات والأراجيف على كاهله حتى لا يتصرّف كما يليق ببشر بشأن إبادة غزة. أكتب الآن وفي البال الطبيبة/ الأم آلاء النجار التي قتلت إسرائيل 9 من أطفالها جُملةً في قصفٍ واحد ( تخيّل!!). من لا يزال يتذكّر فاجعة هذه الأم وقد صار مثل هذا التوحش يشغل يوما أو اثنين، ثم ننصرف إلى المأساة التالية؟. لا قسوةَ أكثر.

ما يجري في غزة ليست حربا بين طرفين. كم نخطئ حين نكتب (الحرب في غزة). هي إبادةٌ اجتمع فيها كل الإجرام. وإن لم يكن لك موقفٌ الآن، فلا كلام معك.

يأسٌ من أن يوقف النظام العالمي المعطوب والمنافق حرب الإبادة في غزة، وفقدانُ أملٍ من أن ينبعث النظام العربي المسلوب الإرادة، المنفصل عن واقع شعوبه، من خنوعه ليقول “كفى”. لذا يرفض حَمَلَةُ “جنسية الإنسان” تبلُّد الحسّ، وموت الشعور بالإنسان، وقتل المعنى.

ولأن هناك من لا يقبل الاستئناس بالقتل، حرّكت المسيرة العالمية (الشعبية) إلى غزة المشهد.

رفضُ الاستسلام لكل هذا الانكشاف الأخلاقي “واجبُ الوقت”.

بحراً وبرّاً، مَقْتُ أفعال إسرائيل تصاعد. و”جوّا”، حوثيو اليمن يرفضون الانحشار في طابور منعدمي الضمير.

سفينة مادلين ضمن أسطول الحرية تَحَدَّتْ وأحرجت دولة الاحتلال التي أصبحت “عبئاً” على “العالم المتقدّم” الذي أطلق يد الوحش يومَ اعتبر 7 أكتوبر بداية التاريخ.

12 إنسانا من قارات عدّة ركبوا سفينةً رافضين أن يبتلعوا ألسنتهم، وأن يهنأوا بكراسي المتفرّجين. حمَلت السفينة اسم الشابة الصيّادة مادلين كُلّاب، وتسلّحت بضميرٍ منشغلٍ بفضح الاستهتار بالحياة البشرية، في محاولة لكسر الحصارِ عبر إبحارٍ رمزي، يحمل نُبلا إنسانياً، وحليبَ رُضَّعٍ يأكل الجوع أجسادهم المقصوفة بالصواريخ والأمراض.

أظهر نشطاء مادلين إسرائيل في صورة قرصان سفن يختطف في المياه الدولية بأساليب البلطجة. أضافت السفينة إلى بشاعة دولة الاحتلال الإسرائيلي سطراً آخر في الإجرام.

عضوة البرلمان الأوروبي الفرنسية – الفلسطينية ريما حسن، التي كانت على متن سفينة مادلين، قطعت كل تلك الأميال البحرية لتُدين إسرائيل من داخل معتقلاتها، حين كتبت “الحرية لفلسطين” على جدار في سجن “جفعون”. والناشط البرازيلي تياغو أفيلا قصة أخرى تجسّد كل ذلك الغضب الآتي من أمريكا اللاتينية الثائرة منذ زمن الإنسانيين العِظام. ما تسرّب يظهر كم أرْهق الشاب البرازيلي سجّانيه بعلوّ صوته وهو يرفض التعامل مع المحتلّين. إسرائيل الغاضبة من كل هذا الاندفاع الإنساني في مواجهة إجرامها أقدمت على عزل ريما حسن وتياغو أفيلا، قبل ترحيلهما فيما يشبه التخلص من عذاب.

ولأن إسرائيل ليست وحدها في حرب الإبادة، ولأن غزّة أيضا ليست وحيدة في مواجهة الإبادة، تحرّكت برّا قافلة الصمود المغاربية من تونس. القافلة هي الوجه الآخر لسفينة مادلين: نفس الغايات، ونفس الإحراج، لكن هذه المرة في مواجهة التواطؤ الإقليمي مع الإجرام.

مادلين أحْرَجت الوحش نفسه، وأرغمته على التعرّي، في بحر الإنسانية، سافراً من كل أخلاق. وقافلة الصمود تُعَرّي سوْءَة النظام العربي المجبول على الانبطاح في البرّ.

مصر، التي تنام على صراخ غزة كل يومٍ، فجأة تذكّرت سيادتها و”الضوابط التنظيمية والآلية المتّبعة” لدخول أراضيها، لكنّها صمتت يومَ قتلت إسرائيل جنودها على حدود القطاع، حتى أن “أقوى جيش عربي” لم ينعِ ضحاياه بـ”الشهداء”، واكتفى بوصف “العناصر”.

طولُ الحرب يطوّق عنق الاحتلال وداعميه، في العالم والمنطقة، مثلما يُرهق الفلسطينيين. وشهودُ الحربِ المنتسبين للرّحِمِ الإنسانية يتدفقون، وفق المستطاع، نحو الموت المُعمّم والقتل المحموم، ليصرخوا في وجه الاحتلال ومن يتواطأُ معه أن هناك من يؤدّي الشهادة كاملة، الآن وليس غداً: هذه حرب إبادة، وجريمة تاريخية.

تَحْشُر الاستبدادات في أفواه شعوب منطقتنا، من المحيط إلى الخليج، الترهيب لتسكت، وليَنْشغلَ كل واحدٍ “بما يعنيه”. التحركات الشعبية الجارية تأكيدٌ على أن نبضَ حياةٍ يسري في جسد يريدونه جثة.

عشرات النشطاء الذين رحّلتهم مصر من مطار القاهرة، والذين دخلت غرفهم في فنادقها وفتّشت في هواتفهم، عنوان خذلان. سفن الاحتلال التي توقّفت في موانئ عربية علامةُ سقوط. في الأخلاق لا أنصاف موقف، ولا مفاوضة. والأيادي المُرتعشة لا تكتب التاريخ.

كل رافض لإبادة غزة كان يركب سفينة مادلين، ويمشي مع قافلة الصمود، ويقف في طابور واحدٍ مع المرحّلين من مصر.

ليبيا المقسّمة حتى ملّ الانقسام من خلافاتها يحتشد مواطنوها في مسار القافلة دعما لفلسطين. مغاربة وجزائريون يختلفون على كل شيء، وتجمعهم غزة. ومن تونس، المنكوبة ديمقراطياً، أوّل المسير وقوفاً في وجه الوحشية التي يُقتل بها الأطفال في القطاع.

كسفينة مادلين، قافلةُ الصمود المغاربية تحمل همّا وانتماءً إنسانياً، أكثر مما تحمل من الغذاء والدواء، لذا يخرج الراسبون في امتحان الأخلاق ليطلقوا النار على “سيارة إسعافنا” من هذا القبول بموقف الحدّ الأدنى.

القافلة تكسر، حتى دون أن تصلَ حدود غزة، حصار عدم الاهتمام، وعدم الاكتراث بما يجري. من داخل أوطاننا الغارقة في الانغلاق تجد من يهتمُّ، ومن يتحرك، ومن يريد أن تضيق كل هذه المساحة الهائلة بين إرادة الشعوب وسلوك الأنظمة.

مدرب كرة القدم الشهير، الإسباني بيب غوارديولا، ذكّر العالم هذه الأيام، وهو يندّد بالإبادة في غزة، بقصة الطائر والحريق الهائل في الغابة، وكيف هربت جميع الحيوانات تاركة خلفها الدخان والرماد. صمد الطائر وحده ولم يقبل أن يهرب، وتحرّك بنقل الماء من النهر بمنقاره محاولًا إطفاء الحريق. حجم الحريق أكبر من تطفئه قطرات، لكن الطائر الصغيرة كان يؤدّي واجبَه.

هذا تحديدا ما يفعله الإنسانيون في مواجهة الشر. ولهذا نكتب.

قصارى القول

في أوطاننا أنظمةٌ لم تقم فقط بما يكفي لوقف الإبادة، بل تواطأت في استمرارها. عامان كاملان من الكلام الذي لا يُقام له وزن. خفّ وزنهم، فاستخفّت بهم إسرائيل. في المغرب، “دولةُ إسرائيل” حليفٌ، وجنودها يتدرّبون على “حرب الأنفاق”. يُؤلم أن يكون هذا المسخُ حليفاً. بؤسُ السياسة و”المصالح”، وانطفاءٌ في جذوة الانتماء الإنساني. ولا وطنيةَ أبداً في إغماض العين عن الإبادة. أمرٌ لا يشرِّف.