story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

قطط أخنوش المختفية

ص ص

قطط أخنوش المختفية: ماذا تقول كرة القدم عن صورة الدولة؟ | صوت المغرب

في المخيال الشعبي المغربي حكاية بسيطة وقاسية في آن واحد: القطط تختفي يوم عيد الأضحى. لا لأنها صارت تزهد في اللحم، بل لأنها تفهم الخطر حين تتغيّر قواعد الشارع.

هذه الحكاية تصلح اليوم استعارةً سياسية دقيقة لقراءة وضع رئيس الحكومة عزيز أخنوش وتحالفه. ليس لأن الرجل اختار الصمت فقط، بل لأن صورته وصورة أغلبيته صارت تُدار بمنطق الغياب المقصود كلما دخل المغرب لحظات تتطلب حضور الدولة لا حضور الحكومة. وحين تشتد الأضواء، تختفي القطط السمينة.

لا يحتاج الأمر إلى خطب ولا إلى تسريبات. كرة القدم قامت بدور النافذة. وهي نافذة استثنائية لأنها صارت في المغرب ملفا سياديا يتقاطع فيه الأمن بالدبلوماسية بالاقتصاد بصورة البلد.

وحين تمنحك الدولة مشهدا رياضيا كاملا، فإنها تمنحك في العمق طريقة اشتغالها على الرموز. من هنا يمكن فهم ثلاث إشارات متتابعة لا تربطها الصدفة بقدر ما يربطها منطق التموقع:

الإشارة الأولى جاءت من أقصى العالم. في أكتوبر 2025 شدّ وزير الخارجية ناصر بوريطة الرحال إلى سانتياغو في الشيلي رفقة فوزي لقجع لمساندة المنتخب المغربي لأقل من عشرين سنة في نهائي كأس العالم للشبان. لم يكن الحدث بروتوكولا خفيفا، بل كان تمثيلا سياديا مباشرا في لحظة رياضية محكومة بميزان الصورة الدولية وبمعنى الانتصار الرمزي. هكذا ظهر أن الدبلوماسية نفسها صارت تحجز مقعدها في المدرجات حين يتعلق الأمر بمكسب تريده الدولة لنفسها قبل أن تريده الرياضة وحدها.

الإشارة الثانية جاءت من الدوحة. قبل أيام من نهائي كأس العرب، استعير وزير الداخلية من قاموس المكاتب وظهر في فضاء يُفترض عادة أنه محجوز لرئيس الجامعة وربما للوزير الوصي. الأخبار القادمة من قطر تحدثت عن لقاء رسمي بين وزير الداخلية القطري وعبد الوافي لفتيت في مركز القيادة الوطني ومناقشة التعاون الأمني واستعراض تقنيات القيادة والتحليل وإدارة الأزمات. الرسالة هنا أوضح من أي تعليق سياسي. نحن أمام انتقال الرياضة من حقل المنافسة إلى حقل السيادة. حين يدخل وزير الداخلية على خط نهائي كروي، فذلك يعني أن الدولة تعتبر الحدث منصة اشتغال لا منصة تصفيق).

ثم جاءت الإشارة الثالثة لتضع الخاتم على المعنى. في افتتاح كأس إفريقيا للأمم مساء أول أمس الأحد 21 دجنبر 2025، ترأس ولي العهد الأمير مولاي الحسن حفل الافتتاح بمركب الأمير مولاي عبد الله. الوثيقة الرسمية التي قدّمت قائمة الحاضرين ركزت على ثقل الدولة ورمزية المؤسسة الملكية وحضور قادة الكرة عالميا وقاريا، جياني إنفانتينو وباتريس موتسيبي، وحضور فوزي لقجع، وحضور الوزير الوصي محمد سعد برادة، وحضور فيصل العرايشي. لكن صورة الحكومة السياسية بصيغتها الحزبية ظلت خارج الكادر. لا أثر لرئيس الحكومة ولا لزعماء التحالف ولا لوجوهه التي تملأ الشاشات حين يتعلق الأمر بتدبير اليومي.

إذا جمعتَ الإشارات الثلاث ستجد نفسك أمام فرضية تفسيرية واحدة: الحكومة الحالية في وضعية تعليق رسمي من طرف ما نسميه في التداول اليومي “الدولة العميقة”.

تعليق لا يعني إسقاطا دستوريا ولا انقلابا على المؤسسات. يعني شيئا أكثر برودة: أن الدولة تمضي في ملفاتها الثقيلة عبر قنواتها السيادية وتُبقي الحكومة في الواجهة حين يتعلق الأمر بالتدبير الروتيني وبكلفة القرارات وبامتصاص الغضب الاجتماعي. وحين تبدأ لحظات الصورة الكبرى، يتم سحب المشهد من السياسي الحزبي وإسناده إلى أدوات الدولة الصلبة والناعمة معا.

هذه وضعية غير مسبوقة في دلالتها لأنها لا تتعلق بنخبة جاءت من خارج مصنع الدولة. في مراحل سابقة كان يمكن للدولة أن تنكر جزءا من الطبقة السياسية لأنها تحمل رواسب استقلالية أو جذورا أيديولوجية أو قواعد اجتماعية لا تخضع بالكامل لمنطق الهندسة. أما اليوم فنحن أمام نخبة هي من إنتاج النظام السياسي نفسه من البداية إلى النهاية. ومع ذلك يجري التعامل معها بقدر من التحفظ والإنكار الرمزي. وهذا ما يجعلها نخبة “الحزة”، أي نخبة الاضطرار، ونخبة المرحلة التي تُستعمل لأنها المتاح ثم تُركن حين تقتضي ضرورات الدولة لغة أخرى.

التاريخ القريب يقدم نموذجا يساعد على الفهم دون السقوط في الجزم. سنة 2002 تم التراجع عن المنهجية الديمقراطية وتعيين إدريس جطو بدل عبد الرحمان اليوسفي. كثيرون قرأوا الحدث كقرار داخلي صرف. لكن المنطق الجيوسياسي كان يكتب نصه في الخلفية. الحرب الأمريكية على الإرهاب كانت قد بدأت، والمنطقة كانت تتجه نحو هندسة أمنية جديدة، وكانت الدولة تحتاج هامشا واسعا لتحييد السياسي وتمكين أدوات الاحتواء وأدوات القبضة من العمل دون ارتباك.

قد نكون اليوم أمام مناخ مختلف في تفاصيله لكنه قريب في منطقه. ترتيبات خارجية. التزامات دقيقة. رهانات صورة. ورش مونديال 2030. هندسة استقرار داخلي في زمن اقتصادي متوتر. في مثل هذه الأزمنة لا ترفع الدولة صوتها، بل تغيّر زاوية الكاميرا.

ولأن السياسة في المغرب نادرا ما تُعلن نواياها بلغة صريحة، فإن سلوك الدولة يصبح نصا موازيا. الدولة حين تريد أن تقول إن ملف كرة القدم صار ملفا سياديا فإنها لا تصدر بلاغا. تضع وزير الخارجية في سانتياغو، وتبعث وزير الداخلية إلى الدوحة، ثم تضع ولي العهد في منصة افتتاح الكان. وحين تريد أن تقول إن الحكومة خارج مركز القرار الرمزي فإنها لا تعفيها. بل تتركها في مكانها وتُخرجها من الصورة.

حتى التفاصيل التي قد تبدو ثانوية تؤكد المعنى. عشية انطلاق الكان تم إطلاق منطقة مشجعين موجهة لطلبة التعاون الإفريقي بالرباط بحضور بوريطة ولقجع وموتسيبي. مرة أخرى يظهر خط الدولة السيادي والدبلوماسي في قلب الاشتغال الكروي، لا خط التحالف الحكومي.

في هذا السياق تصبح مفردة الاختفاء أكثر من سلوك شخصي. فالقطط السمينة لا تختفي لأنها تخجل، بل تختفي لأنها فهمت أن اللحم صار موزعا تحت رقابة أخرى، وأن حضورها قد يفسد اللقطة بدل أن يجمّلها. لذلك يظل أخنوش وتحالفه في وضع يسمح للدولة باستعمالهم كصمّام مؤسساتي للاستقرار الدستوري دون منحهم شرف تمثيل لحظات السيادة الرمزية. وهذا يسحب أيضا ما تبقى من سردية تقول إن أخنوش فلتة تاريخية لبورجوازية جديدة ستقوي رئاسة الحكومة وتدفع الديمقراطية إلى الأمام.

ما نراه أقرب إلى العكس. رئاسة حكومة قوية تحتاج مشروعية سياسية وحضوراً سياديا وثقةً داخل الدولة. بينما المشهد يقول إن الثقة تُدار على نحو انتقائي، وإن الواجهة تُستدعى حين يُراد لها أن تتحمل الكلفة لا حين يُراد لها أن تجني الرمزية.

ليس المطلوب هنا إصدار أحكام أخلاقية. بل المطلوب تسجيل المعطى كما هو. كرة القدم سمحت لنا بأن نرى ما لا نراه في قنوات التواصل السياسي العادية التي جفّت وصارت فقيرة. وحين تضطر إلى قراءة عقل الدولة من المدرجات، فاعلم أن السياسة نفسها تعيش فراغا.

في هذا الفراغ بالذات تختفي القطط السمينة يوم العيد، وتبقى الدولة وحدها على المائدة، توزع الأدوار، وتضبط الصورة، وتترك للحكومة مهمة البقاء في الموقع من أجل الواجهة لا من أجل القيادة.