قطر.. وما بعد بعد قطر

بالنسبة لإسرائيل، العدوان على قطر مُهمٌّ في حدّ ذاته، أكثر من المستهدَفين بمحاولة الاغتيال. مسارعةُ نتنياهو وكل مؤسسات الاحتلال، الأمنية والسياسية، إلى التبني السريع للهجوم، بغضّ النظر عن نتائجه العملية، يؤكد هذا.
الضربة محاولة ترسيم توازن جديد. أو في الحقيقة لاختلال كبير في التوازن القائم، وكسر لقواعد، وتثبيت معطى أنه لم تعد عاصمةٌ عربية بعيدة عن “اليد الطولى”.
للمفارقة، العدوان على الدوحة يحمل في ذاته عنصرين يكادان يظهران متناقضين: غطرسة وحالة جنون عظمة، وحالةُ يأسٍ متعمّقةٍ بسبب الوضع في غزة، التي لم يعد يحصّل فيها جيش الاحتلال أية مكاسب غير المزيد من مراكمة عناصر إثبات جريمة الإبادة الجماعية. الهجوم قفزةٌ كبيرة هي مزيج من الغطرسة واليأس.
لإعادة ترتيب المشهد أسجل ملاحظة تبدو لي مهمة. في الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كادت قطر تفقد سيادتها بالحصار السعودي الإماراتي البحريني، والمصري، الذي لم يكن ليقعَ دون “ضوء أخضر” أمريكي بشكل ما، والذي قال عنه أمير الكويت الراحل، في مؤتمر صحافي بالبيت الأبيض، إنه كاد يتطور إلى غزو.
والآن، في ولاية ترامب الثانية، تتلقى الدوحة ضربةً غير مسبوقة. وعليه، يكون واضحاً أنه رغم كل مظاهر اصطناع “الصدّاقة” مع ساكن البيت الأبيض الحالي، كما جرى خلال جولته الخليجية الأخيرة، فإن العلاقة بين قطر و”الرئيس التاجر” لم تخرج من مساحة براغماتية جافّة قريبة من “الاستغلال”، تأخذ فيها واشنطن ولا تُعطي، وتكشّفت بشكل صارخٍ مع قصف قلب الدوحة، ثم تصنّع محاولة الإنذار من الهجوم بعد 10 دقائق من تنفيذه، وفبركة تخريجة أن البيت الأبيض عرَف بالعدوان من الجيش الأمريكي وليس عبر إسرائيل، في جواب على سؤال كان سيُطرح بشأن عدم التدخل لوقفه، على شاكلة إيقاف ترامب لهجوم إسرائيلي على طهران في نهاية حرب الـ12 يوماً هذا العام.
في قطر، الكلمة التي تتردّد أكثر من غيرها هي “الغدر”. وتعني، في نظري، واشنطن أكثرَ مما تعني تل أبيب.
العنوان الأساس والهدف الحيوي للهجوم هو رسالة ردع إقليمية ومحاولة تكريس الهيمنة الإسرائيلية، وإدخال كل المنطقة في حالة شك، وجعل الأرض رخوةً تحت أقدام القرار الإقليمي، تنتهي بالإخضاع الشامل. الهدف الثاني محوُ القيادة السياسية لحركة حماس في الخارج، خاصة بعد اغتيال رئيس الحركة إسماعيل هنية في طهران، وقبله نائبه صالح العاروري في بيروت، ثم رئيس الحركة يحيى السنوار في غزة، ضمن هدف الحرب المعلن المتمثل في القضاء على حماس باعتبارها المسؤول الأول عن هجمات 7 أكتوبر 2023. يضافون إلى عمليات تصفية القيادة العسكرية التي شملت قائد كتائب القسام محمد الضيف، ونائبه مروان عيسى، وقائد ركن الأسلحة غازي أبو طماعة، وقائد القوى البشرية رائد ثابت، إلى جانب قائد لواء خان يونس رافع سلامة، وغيرهم.
هذا الاستنزاف على صعيد قيادة حماس يخدم استراتيجيةً مستقبليةً عند لحظة اتخاذ قرار وقف حرب الإبادة ضد غزة بالتسويق لمقولة أن “المهمة أُنجِزت”، ويخدم أيضا هدفاً آنياً مرتبطاً بالقطاع تحديداً، ضمن مسعى إعادة تشكيل الواقع فيه، تحت عنوان التهجير، الذي يحقق هدف السيطرة على الأرض، مدارُ كل الحرب.
دولة الاحتلال تجاهر طيلة الأشهر الماضية بخطة احتلال غزة، وبدأت تحركات ميدانية لاحتلال مدينة غزة وإخلائها من السكان، لحشرهم في الجنوب عند الحدود مع مصر، بالتزامن مع تعظيمِ الخطاب، في تل أبيب وواشنطن، بشأن وجوب فتح الحدود لـ”الهجرة الطوعية”، التي ليست إلا تهجيراً قسرياً إجرامياً، لكن هذه المرة إلى خارج حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، وليس فقط ضمن موجات نزوح داخلي مرهقة.
وأسوق هدفاً ثالثاً من هجوم الدوحة، يرتبط بمحاولة فرض انسحاب الوساطة القطرية، الموثوقة فلسطينياً، خاصة مع نشوء أوضاع هدفها إرغام قيادة حماس على توقيع اتفاق استسلام، يتم بموجبه: تسليم من تبقى من المحتجزين الإسرائيليين، وتسليم السلاح وخروج من تبقى من قيادة الحركة من غزة، ومنح سلطة الحكم فيها لـ”أطراف لا تشكل خطراً” آنياً أو مستقبليا (ما يعني في الجوهر إنهاء فكرة مقاومة الاحتلال).
بقاء الدوحة طرفاً في عملية التفاوض كان غيرَ مريحٍ، على الأقل بالنسبة للإسرائيليين، الذين لم يوفّروا من قواميس التهجّمات على الدوحة التي تستضيف مسؤوليهم للتفاوض.
لهذا، كان لافتاً التأكيد القطري في مجلس الأمن على عدم التراجع عن أداء هذا الدور، إفشالاً للمسعى الإسرائيلي لفرض انسحاب وسيطٍ لم يكن محايداً بشأن الحق الفلسطيني، وقيام وطنٍ للفلسطينيين، ووجوب إنهاء الاحتلال.
ومع ذلك، لا يمكن توقّع القرار القطري بشكل حاسم بشأن الالتزام باستمرار دور الوسيط بعد هجوم الدوحة رغم التعهّد، وسيؤثّر فيه قرار حماس وتقييمها للمرحلة المقبلة، وجدوى التفاوض، خاصة أنها تُعاين كثيراً من عجلات دولة الاحتلال تعْلَقُ في وحْل أخطاء استراتيجية، بدأت تشكّل، عالمياً، صورةَ إسرائيل الدولة المارقة، المتهمة بارتكاب الإبادة الجماعية، التي تستغل تواطؤ الغرب معها للإفلات من العقاب عن جرائمها.
وفي مستوى ثانٍ، ولفهم الدور الأمريكي في العدوان على الدوحة، يكون مفيداً العودة إلى كلام المبعوث توماس برّاك، نهاية غشت الماضي، حين صرّح بأن إسرائيل لن تلتزم بحدود “سايكس بيكو” بعد أحداث 7 أكتوبر، وأنها تغيّرت ولم تعد تعترف بالحدود التقليدية، ليخلص إلى النتيجة العملية لهذا المعطى في تصوّر واشنطن لوظيفة إسرائيل الجديدة، بقوله إن دولة الاحتلال “ستتخذ أي إجراءات تراها ضرورية لحماية أمنها ومنع تكرار الهجمات”.
بعد كلام برّاك مباشرة، تحدث رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، في 31 غشت، عن نيّة جيشه “القضاء على قيادة حركة حماس في الخارج”. والآن يمكن استبدال عبارة “الخارج” بـ”قطر” بكل ارتياح. ولاحظ كيف بدأ اللمز جهةَ تركيا التي تستضيف قادة من حماس أيضا.
خلف الكلمات المقتضبة لتوماس برّاك (لبناني الأصل) تعتمل تصورات لإعادة تشكيل المنطقة. أمريكا في قلب وطليعة هذا المشروع، وليست متفاعلة مع مجرياته، كما تدّعي في حِراكها الدبلوماسي/ الحربي في بيروت ودمشق، وكما فعلت خلال الحرب مع إيران.
وفي السياق، كلام واشنطن عن عدم علمها المسبق بالهجوم على قطر بلا قيمة. منذ عودة ترامب، كل “المهمّات” الإسرائيلية تُنفّذُ في أجواء من الأكاذيب وحملات تضليل واسعة يقودها الرئيس الأمريكي شخصيا.
قبل أيام من العدوان على الدوحة، زار قائد القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى (سنتكوم) الأدميرال براد كوبر إسرائيل، ثم جاء بلاغ البيت الأبيض بعد الهجوم ليثبت المُثبت، رغم محاولته وضع مسافة مع الهجوم الإسرائيلي، دون إدانته.
زاد البلاغ في الاستخفاف بمستوى العدوان سطراً، حين تلت المتحدثة أن “الرئيس ترامب يعتقد أن هذا الحادث المؤسف قد يكون فرصة لتحقيق السلام”. قصف في عاصمة عربية “حليفة” مجرد “حادث مؤسف”، و”قد يكون فرصة سلام”. وليُراجع كل منْ يحتاجُ الحديث المكثّف في واشنطن عن مبدأ “السلام من خلال القوة”.
في بيان البيت الأبيض الأوّلي، “المرعب” بنفس درجة الهجوم، تحدث عن أنّ العملية “لا تخدم أهداف لا إسرائيل ولا أميركا”. والحقيقة غير المكتوبة، أو الثاوية خلف هذه الجملة، أن فشل عملية الاغتيال الجماعي لقيادة حماس هو الذي “لم يخدم أهداف لا إسرائيل ولا أميركا”.
بعد ساعات من الهجوم، وإثر إعلان حماس “نجاة” وفدها المفاوض، وتراجع منسوب التفاؤل الإسرائيلي، ما بقي هو الدخان المتصاعد ومشهد الدمار في الموقع المستهدف، وكل تلك الآثار السياسية والدبلوماسية التي ستترتّب عليه.
فشل الهدف العملياتي غيّر المعطيات، ولعلّ عدم نجاح الاغتيالات وحده “أغضب” ترامب من نتنياهو، مادام الهجوم سيدقّ الكثير من الأجراس في عواصم المنطقة للإدراك سريعاً أن لا أحد آمن، وأنه لا ضمانات أمنية أميركية إلا لإسرائيل.
تقاطع التفاصيل يوحي بأن هجوم الدوحة نُسّق في واشنطن، ويُظهر أن كل تلك المقترحات التي كان يحملها المبعوث ستيف ويتكوف إلى القطريين والمصريين، وتوزيع الأدوار مع نتنياهو، والتصعيد الكلامي الذي كان يطلقه الرئيس الأمريكي، بينها توجيهه “الإنذار الأخير” لحماس قبل أيام، كانت تمهّد للحظة التالية المعلومة والمدروسة، والمتّفق عليها، بما يُسقط زعمَ التحرك الأحادي من جانب إسرائيل.
مقترح “الاتفاق الشامل” الذي أرسلته واشنطن إلى حماس عبر الوسيط القطري، وزعمت أن إسرائيل وافقت عليه، كان هدفه جمع قيادات حماس في الخارج، بدليل سفر بعضها إلى قطر من مصر وتركيا، لتصفيتها جماعياً ضمن عملية “قمّة النار”.
نفس اللعبة فعلها ترامب مع إيران: الانخراط في اجتماعات تفاوض، وتجهيز عروض، وضخ مناسيب كبيرة من التفاؤل، والحديث عن اتفاق وشيك، ضمن لعبة تنويم، قبل الانقضاض الإسرائيلي.
قصارى القول
في يوم واحد، أي الثلاثاء 8 شتنبر، هاجمت إسرائيل في خمسة بلدان عربية، هي فلسطين ولبنان وسورية وتونس (سفن أسطول الصمود)، ثم قطر، ولو ضربت في اليمن يومها لكانت الحصيلة ستة بلدان عربية من أصل اثنين وعشرين دولة.
رُبع أعضاء جامعة الدول العربية تعرّض للقصف الإسرائيلي، من شمال أفريقيا إلى الخليج. هذه هي إسرائيل التي تقاتلها المقاومة الفلسطينية منذ عقود، والتي يصرّح عنها نتنياهو، وكل متطرفي حكومته ومجتمعه المريض بالكُره والانغماس الإرهابي في “المهمة المقدسة” لــ”شعب الله المختار”، بالحديث العلني عن “إسرائيل الكبرى”.
ولنتذكر حديث ترامب عن أن “مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها”.
المنطقة يجب أن تقرأ جيّدا معنى الضمانات الأمريكية. دول الخليج أساسا. كل تلك القواعد وصفقات الأسلحة والاتفاقيات الأمنية تصير بلا معنى عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
الخديعة مستمرة منذ عقود، عبر التخويف من “العدو الإيراني المشترك” لتبرير “احتلالات” سياسية “ناعمة” في المنطقة يُنفق عليها من يتوهّم تمتّعه بالحماية الأمريكية، قبل أن يستفيق على الانكشاف التام.
قال رئيس الوزراء القطري إن الرادارات لم تكشف الهجوم، في بلد يملك دفاعات جويّة متطورة، وتوجد فيه قاعدة العديد العسكرية الأمريكية.
الرسالة من هجوم قطر تعني تركيا أيضاً ارتباطاً بسورية، وتعني السعودية ارتباطا بمعنى الضمانات الأمريكية وبمفهوم النفوذ، وتعني مصر والأردن في علاقة بمشاريع التهجير من غزة والضفة. وتعني أيضا كل من ينظر (ويُنظِّر) لعلاقة طبيعية (تطبيعية) مع دولة الاحتلال، التي لا تؤمن بشركاء في المنطقة، بل تريد خاضعين.
وما يعنينا نحن في المغرب هو السؤال: هل نوجد، نحن وإسرائيل، على نفس درجة الامتياز في الميزان الأمريكي ارتباطا بالاتفاق الثلاثي الموقّع في 22 دجنبر 2020؟