قصة مباراة زامبيا التي أعادت المغرب إلى اليقين في كأس إفريقيا 2025
لم تكن مباراة المغرب وزامبيا، مساء الإثنين 29 دجنبر 2025 بملعب الأمير مولاي عبد الله في الرباط، مجرد ختام لدور المجموعات في كأس أمم إفريقيا 2025 بالمغرب؛ بل كانت اختبارا مباشرا للعلاقة بين فريق يَحمل صفة البلد المضيف وجمهور لا يكتفي بالتصفيق، بل يضغط ويطالب ويرفع سقف التوقعات.
في هذا الامتحان، قدّم المنتخب المغربي جوابا صريحا: فوزٌ واضح بثلاثية نظيفة، وتأهلٌ إلى ثمن النهائي في الصدارة، وانقلابٌ كامل في الإيقاع الذهني قبل التكتيكي.
الحسم بأقدام الكعبي ودياز
الفارق بين هذه الليلة وما سبقها في المجموعة لم يكن في النتيجة فقط، بل في اللغة التي تحدّث بها المنتخب داخل الملعب.
لغةُ الحسم بدل التردد، ولغةُ المبادرة بدل انتظار “هدية” من المباراة. لذلك بدت الثلاثية كأنها استعادة لحقّ معنوي قبل أن تكون ثلاث نقاط: استعادة صورة مرشح لا يفاوض على هيبته، ولا يترك خصمه يتنفس طويلا.
منذ صافرة البداية، كان واضحا أن المغرب دخل ليختصر الكلام. ضغطٌ أعلى، وكراتٌ أسرع في العمق وعلى الأطراف، ورغبةٌ في «تثبيت» المباراة مبكرا حتى لا تتحول إلى سيناريو أعصاب جديد.
هذا ما حدث بالفعل في الدقيقة التاسعة، عندما افتتح أيوب الكعبي التسجيل، واضعا زامبيا في موقف المطاردة منذ وقت مبكر، ومحررا المدرجات من توتر الانتظار.
بين الهدف الأول وما تلاه، لم يبدُ المغرب فريقا يبحث عن حماية تقدمه بقدر ما بدا فريقا يريد قتل المباراة وهي ما تزال في طور التشكّل، وهنا بالتحديد تبدأ زاوية هذه العودة.
في كرة القدم، ليس الجمهور طرفا محايدا. حين يشعر أنه “مُصغى إليه”، وأن رسالته وصلت، يتحول من قاض قاس إلى شريك كامل.
وفي الرباط، كان الإيقاع داخل الملعب يوازي إيقاع المدرجات: انفجار تشجيع، ثم “سير سير” متواصل، ثم موجةٌ جماعية كأنها تُعلن أن المباراة صارت في يد المغرب، نفسيا قبل أن تكون فنيا.
وجاء الهدف الثاني في الدقيقة 27 ليعطي هذه القناعة جسدا رقميا. ابراهيم دياز يضاعف النتيجة، لتتحول المباراة عمليا إلى مساحة سيطرة مغربية، لا مجرد أفضلية قابلة للانكسار.
لم تكن زامبيا غائبة تماما، لكنها بدت عاجزة عن إيجاد المفاتيح أمام منتخب لم يسمح لها ببناء هجماتها براحة.
وفي الشوط الثاني، حين يحتاج الخصم عادة إلى “لحظة أمل” كي يعود، أغلق المغرب الباب مبكرا بهدف ثالث حمل توقيع الكعبي من جديد في الدقيقة 50، لتصير الدقائق المتبقية إدارة ذكية لمباراة حُسمت عمليا.
ماذا تغيّر داخل منتخب المغرب؟
التحول لم يكن “سحرا” ولا صدفة، بل كان أقرب إلى استدراك جماعي. المدرب وليد الركراكي يقرأ المزاج العام دون أن يصبح أسيرا له، ولاعبون يُدركون أن أكبر عدو للمتنافس هو الغرور أو التبرير، وجمهور يختبر فريقه بصرامة لأن سقف الحلم أعلى من مجرد التأهل.
ومن بين أكثر لحظات المباراة دلالة على هذا المعنى، لحظة عودة أشرف حكيمي إلى أرضية الملعب وسط تصفيق كبير، بعد غياب بداعي الإصابة.
اللاعب نفسه عاد كرمز لاسترجاع «قائد» ميداني، واستعادة جزء من الهوية الهجومية على الرواق، في توقيت يحتاج فيه المنتخب إلى تجميع عناصره قبل الأدوار الإقصائية. وقد عبّر إلياس بنصغير عن هذا البعد العائلي داخل المجموعة حين تحدث عن فرحة اللاعبين بعودة حكيمي، واعتباره عنصرا قياديا يمنح المجموعة دفعة معنوية واضحة.
بالمنطق نفسه، جاءت تصريحات بنصغير عن وليد الركراكي لتضع عنوانا لِما حدث بين النقد والرد. اللاعبون، كما قال، يرون في مدربهم «الرئيس» الذي يثقون به، ويعتبرون أن عليهم أن يقاتلوا من أجله كما قاتل من أجلهم، في إشارة إلى أن الفريق حوّل الضغوط إلى لحمة داخلية بدل أن يجعلها مادة تشكيك.
نتيجةٌ تُسجّل “معنى” جديدا
بهذا الانتصار، أنهى المغرب مجموعته في المركز الأول وتأهل رسميا إلى ثمن النهائي، بينما غادرت زامبيا المنافسة بعد احتلالها المركز الأخير، في ليلة بدت فيها الفوارق أوضح من حسابات الجولة.
لكن ما يهم ليس “من تأهل” فقط، بل كيف تأهل. وهذه المباراة ستُستحضر لأنها لحظةُ انتقال من صورة منتخب متوتر تحت سقف التوقعات، إلى منتخب يفرض إيقاعه ويكسب بالوضوح. ستُستحضر أيضا لأن المدرجات لم تكن ديكورا، بل كانت محرّكا.
حين يربح المنتخب هذا النوع من المباريات، فإنه لا يربح النقاط فقط، بل يربح «العقد» غير المكتوب بينه وبين جمهوره، ومفاده أن النقد لا يعني الكراهية، وأن الاستجابة لا تعني الخضوع، بل تعني النضج.
في كأس أمم إفريقيا تحديدا، حيث التفاصيل الصغيرة تُسقط كبارا وتُصعّد آخرين، تبدو ثلاثية زامبيا نقطةَ انعطاف في طريق المغرب داخل بطولة يلعبها بصفة المرشح وصاحب الأرض معا.
والدرس الأعمق الذي يتركه هذا الفوز هو أن المنتخب حين يتّحد داخليا ويقرأ نبض محيطه بذكاء، يستطيع أن يحوّل الضغط إلى طاقة، والقلق إلى إيقاع، والانتقاد إلى لحظة إجماع، وهذا، غالبا، هو الفارق بين منتخب “يتأهل” ومنتخب “يذهب بعيدا”.