في يوم رحيلها..من هي السيدة ليلى؟
رحلت الإذاعية المغربية مليكة الملياني الملقبة ب”السيدة ليلى” إلى دار البقاء صبيحة اليوم الجمعة تاركة خلفها تاريخا مهنيا وإنسانيا يستحق أن يحكى. اشتهرت مليكة باسم “ليلى” وهو لقب فني اختارته لنفسها لأنها كانت تحب الحكاية الشهيرة التي جمعت قيسا بليلى.
رأت أيقونة الإذاعة الوطنية بالمغرب النور سنة 1939 في أحد دروب المدينة العتيقة بمكناس وتحديدا حي حمام جديد. كبرت في حضن أسرة مغربية محافظة لكنها كانت منفتحة على الثقافة الفرنسية. ولذلك كان للسيدة ليلى الحظ في متابعة دراستها على عكس قريناتها آنذاك.
درست أول الأمر في كتاب مولاي رشيد المنوني، ثم في مدرسة السقاط، ومدرسة النهضة الابتدائية. ولأنها أنهت هذه المرحلة بالتفوق قرر والدها أن يرسلها إلى العاصمة الرباط لتتابع دراستها الثانوية بمدارس محمد الخامس. ومن هناك ستبدأ السيدة ليلى في سن صغيرة برسم معالم مسار كبير.
اعتقال ونفي
كان لمليكة الملياني حس وطني متقد وجرأة فريدة جعلت منها وجها نضاليا نسائيا لفت انتباه سلطات الاستعمار وحرك أقلام الصحافة الوطنية والدولية. حيث شاركت في المظاهرات المطالبة بعودة الملك محمد الخامس. وشكل حدث تسليمها رسالة تحمل هذا المطلب للمقيم العام الفرنسي وقعها مجموعة من الطلبة والمسؤولين السياسيين. تأريخا لبدايات النضال الفعلي للمرأة المغربية ضد الاستعمار.
اللقاء الأول للسيدة ليلى بعالم الصحافة لم يكن يسيرا ولا عاديا. حيث كان أول عمل إعلامي تقوم به في حياتها حينما أسند إليها أحد الصحافيين مهمة تصوير المتظاهرين والجرحى المغاربة الموجودين بمستشفى البرج الذي صار اسمه اليوم مستشفى محمد الخامس. واستطاعت مليكة الملياني بفطنتها أن تنفذ بنجاح هذه المهمة. تلك الصور سلمت لاحقا للأمم المتحدة كتوثيق لفظاعة التدخل الاستعماري في قمع المتظاهرين السلميين.
ولذلك تم القبض عليها فيما بعد من طرف السلطات الفرنسية وقضت أسبوعا رهن الاعتقال بسجن سيدي سعيد. لتتم محاكمتها لاحقا بالنفي عاما كاملا إلى قرية نائية تدعى “المغارسيين” بنواحي مكناس. أمضت هناك نصف هذه المدة وتركت المنفى فور عودة الملك الراحل محمد الخامس.
بعد هذه التجارب السياسية التي عاشتها السيدة ليلى. قررت أن تلتحق بمدرسة أم البنين بمدينة فاس لتكوين المعلمين لكنها اكتشفت بعد ثلاثة سنوات أنها لم تخلق إلا لتكون صحافية. فعادت مجددا إلى الرباط وبدار البريهي بدأت مسيرتها الإعلامية الحقيقية.
“للنساء فقط”
كان للسيدة ليلى صوت دافئ تسرب عبر أثير الإذاعة الوطنية إلى قلوب المغاربة في المدن وحتى القرى البعيدة. كانوا يعرفونها جيدا كأنها فرد من الأسرة بالرغم من أنهم لم يروهَ يوما. تقول حينما تسأل عن سر ذلك إن “هذه العلاقة الجميلة بالمتلقي المغربي لا يمكن أن تكون إلا نتيجة الصدق والإخلاص في العمل دون أي خلفيات هامشية”.
قدمت خلال مسارها الطويل مجموعة من البرامج الإذاعية التي تهتم بالأسرة المغربية وقضايا المرأة. من بين هذه البرامج الرائدة نذكر ”للنساء فقط”. و”دنيا المرأة”. و”بريد الأسرة”،ثم ”مع الأسرة”. برنامجها الأخير الذي عمر طويلا. ولأنها كانت تؤمن بما تفعل وتحب هذه المهنة كثيرا. لم تكن السيدة ليلى تقيم وزنا كبيرا للطابوهات.
كانت تعالج في حلقات برامجها مواضيعا وملفات جريئة تهم النساء. متخففة في ذلك من كل الخطوط الحمراء التي كانت تفرضها طبيعة الأنساق الاجتماعية بالمغرب آنذاك. تفعل ذلك إرضاء لضميرها واستجابة لتطلعات الناس.
تقول في أحد حواراتها ” الحرص على البقاء عند مستوى ظن وتطلعات المستمعين ليس بالأمر الهين، كذلك هناك السعي الملح لإرضاء الضمير على الرغم من أن التحدي كان كبيرا بالنسبة لي، خاصة وأنني كنت أتطرق لمواضيع جريئة نوعا ما ولم يعتدها الناس في بلدنا وقتها. لكنني كنت أعتمد على السلاسة وأحافظ على اللباقة في تصريف الأفكار وبعث الرسائل”.
بعد هذا المسار الطويل في السياسة والإعلام والمجتمع.. ترحل السيدة ليلى إلى مثواها الأخير. لكنها لا ترحل عن الذاكرة وستظل حية دائما، لأن أسماء من طراز مليكة الملياني تبقى عصية على النسيان.