في معنى موتنا
إذا كنت تقرأ هذا المقال، فغالب الظن أن قضية محاولة أطفالٍ مغاربة الوصول إلى سبتة المحتلة سباحة عبر البحر قد تراجعت إلى الخلف ولم تعد تستحق النقاش أو متابعة، وهنا مربط الطامّة.
مشهد سباحة مغاربة، بينهم أطفال، نحو سبتة المحتلة محزنٌ إلى أقصى حدّ.
صادمٌ ما جرى، ومؤلم، ويُفترض أن يهزّ الدولة والمجتمع هزّا ليُفهم الذي حدث، وكيف يحطّم الكثيرَ من غرورنا الجماعي.
أطفال يرمون بأنفسهم في البحر، في جو ضبابي، كمستقبلهم الموحش، لأجل الهروب من بلدهم، ينسف كل الأوهام والأراجيف. ولا توصيف غير “الهروب من البلد” يمكن أن يفي بالغرض، لتبيان حقيقةٍ شديدة الإيلام.
هؤلاء لا يزالون أطفالا وفي بداية حياتهم، ولم يتعلّموا كفايةً، ولم يصلوا السن القانوني للبحث عن عمل وتحقيق أنفسهم، قبل أن يتعثروا حين لم يحظوا بفرصة كراشدين، ليلتمسوا طريقاً نحو حلّ فردي نتيجة الإحباط.. هؤلاء أطفال لم يجرّبوا كل هذا، لكنهم أقدموا، على صِغرهم، على الهرب، لأنه ترسّخ في وجدانهم وقناعتهم أنه لا جدوى من البقاء.
عناصر تلك المشهدية المخزية مكرّرة عن لحظة كيْدٍ سياسي كان بالغ التهافت والخطورة مع إسبانيا قبل التصالح مع الجار الشمالي، حين سُمح، في نوع من التواطؤ، باجتياز الحدود الدولية بتلك الطريقة المقززة، واليوم يعيد التاريخ نفسه بمأساوية عبر أطفال يعيشون تشكُّكا مدويّا بشأن المستقبل.
تغذّوا قطعا على الإحباط والشعور بالانتقاص من محيطهم الاجتماعي، فقرروا مبكرا إيجاد حلّ، فكان الأمر بأكثر الصُّور دراميةً وخطرا، وكان يمكن أن يتحول مُميتا.
لا يمكن بأي حال أن أرى الأمر على غير هذا النحو، وليس من المسؤولية الأخلاقية في شيء أن أخفّف من وقعه، ولا أن أجد له تبريرات.
لا يمكن، تحت أي ظرف، أن نقفز في الهواء ونغمض العين عن حقائق بشعة أن بلادنا طاردةٌ، حتى لبعض أطفالها.
حدثٌ مثل هذا يفترض أن يهزّ المجتمع والدولة ومؤسساتها، بأحزابها وبرلمانها ووزاراتها ومسؤوليها، وفقهائها وعلماء السياسة والاجتماع والاقتصاد فيها..
لا أحد يمكن أن يعتبر نفسه غير معني، ولا أحد “بريء”، ولن يكون مقبولا من أي أحد أن يدسّ رأسه في التراب، ويكتفي بمشاهدة اللقطات في شبكات التواصل والمرور إلى التالي، وقد تخفّفنا جميعا من الشعور بأن ما وقع خطير ومسيء.
إن لم تهتزّ البلد لأجل أطفال رموا بأنفسهم هربا من البلد ومؤسساتها ومسؤوليها وبرامجها وخططها و”تنميتها” فـ”لا حياة لمن تنادي”، ولا جدوى من ضرب حديدِ الدولة البارد برودَ مشاعر المسؤولين فيها وتمثّلهم لمعاني المسؤولية.
أما عن هذا المجتمع، الذي يختصم على كل شيء، ويشتم بعضه بعضا بسبب مباراة كرة قدم، ولا يوفّر أي حماسة للخوض في رعونات “مؤثرين” في شبكات التواصل، فلا يكاد يلتفت لما جرى، ولا يخُضُّه المشهد، وينصرف إلى ما يتوهّم أنها أولويات بشكل مُغرق في الفردانية.
مجتمع لا يحتجّ، ولا يغضب، ولا يعبر حتى عن الانزعاج من تلك المشاهد، ومنصرفٌ إلى “بكائيات” (كثير منها معقول) عن غلاء الأسعار في مقاهيَ تُطعم روادها سوء الجودة والخدمة وانعدام النظافة بأغلظ الأثمان، لكن لا فائض وقتٍ لديه للغضب بعد أن رمى أطفال بأنفسهم إلى التهلكة، المادية والمعنوية.
لا خير فينا إن لم ننزعج، ولا خير فينا إن لم نغضب، ولا خير فينا إن لم نقلها ولم نسعَ لمحاسبة جماعية عن هذا التردي والخطر الكامن في النفوس والسياسات والبرامج.. ولا خير فينا إن تبلّدت مشاعرنا وقدرتنا على استشعار السوء في أن يُقبِل أطفال على “محاولة انتحار” جماعية لأجل الوصول إلى الضفة الأخرى.
قصارى القول:
فائض الوطنية الذي يتمتّع به البعض، إلى درجة أن يمارس “التشرميل” باسم الدفاع عن البلد ومؤسساته، ولا يتورّع في النزول بالأخلاق إلى درجة الصفر باسم تمغرابيت مزهوّة بنفسها، يجب أن تُسمع له كلمة في هذا الانكشاف الفاضح لسوْأتنا الجماعية على رؤوس الأشهاد مع قفز أطفالنا في البحر.
الوطنية أن ندرك أننا لسنا دولةً في حالة حرب أهلية أو مع عدوٍ خارجي، أو مجتمعاً يعيش مجاعة طاحنة، أو ضربتنا كارثة طبيعية شتّت شملنا وفكّكت تماسكنا، حتى نمر مرور الكرام على ما جرى قبالة سبتة كحدث عاديٍ. ليس حدثاً عاديا ولا معقولا، ولا يجب التطبيع معه. كما لا يجب أن نقبل تردياً مجتمعيا يهنّئ أُمّا لأن ابنها الذي لم يكمل العشر سنوات وصل “بسلامة”.. هذا الهدر الفظيع للطفولة والاستقالة من وجوب حمايتها لدى أسرٍ وعائلات مفجعٌ، ولا يمكن تبريره بالفقر والعوز والحرمان.
الوطنية الحقيقية تبدأ من هنا، من صون كرامتنا الجماعية عن الامتهان، ومن أن نمنع ارتهان أحلام أطفالنا، على الأقل، إلى السواد والفشل والخوض في تجربة “محاولة الانتحار” الجماعي المثبتة بالصوت والصورة، والتي سارت بذكرها ركبان شبكات التواصل.