في ضرورة الكلام
يعرف المغرب هذه الأيام حالة أقل ما يمكن أن توصف به أنها زوبعة جرّت العديد من الشخصيات العمومية إلى القضاء. سياسيون وصحافيون ورجال أعمال ورؤساء فرق وفنانات يتم متابعتهم قضائيا في قضايا مختلفة. لكن الملاحظ هو أن أغلب المواطنين يلجؤون إلى وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الحصول على آخر التحديثات فيما يخص هاته المواضيع، من خلال قنوات على منصة اليوتوب والتيكتوك لناشطين يتابعهم ملايين المغاربة.
أعتبر أنه من المخزي أن يكون مصدر المعلومة بالنسبة لغالبية المغاربة هو وسائل التواصل الاجتماعي. هذا السلوك يعبر عن غياب للجهة التي من المفترض أن تقوم بهذا الدور: الصحافة والإعلام. وهنا يجب تحميل الدولة جزءا من المسؤولية فيما يحصل، كونها فرضت جوا من الفراغ الصحافي، من خلال متابعة العديد من الصحافيين والمنصات في العشرية الأخيرة إما قضائيا، أو عبر حملات للتشهير، أو الضغط المادي.
في ظل مثل هذه الظروف التي يمر منها المغرب، بل في كل الظروف، يتطلع المواطنون لمتابعة ما يجري في البلد، ويبحثون عن وسائط للتنفيس عما يمرون أو يمر بلدهم منه. وهذا التنفيس جزء من التجربة الإنسانية عبر التاريخ، وإن أخذت أوجها مختلفة في سياقات وحقب متعددة. لذلك على الجزء من الدولة الذي عول على تكميم أفواه الصحافيين من أجل تدجين الشعب المغربي -عليه- أن يطلع على التجربة التاريخية والطرق الفريدة التي أبدعتها الشعوب من أجل التنفيس عن دواخلها.
في التجربة المغربية، بعد عشرية هوى فيها المغرب متقهقرا في ترتيب حرية الصحافة العالمي، انتقل المغاربة إلى وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا منصة اليوتيوب التي فتحت مجالا للعديد من المواطنين العاديين لتصدر المشهد “الإعلامي”.
الصحافة المهنية تحكمها مواثيق أخلاقيات للمهنة وقوانين منظمة يمكن للدولة من خلالها تأطير عمل المهنيين. لكن نفس الشيء لا ينطبق على ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا النوع من “الإعلام” يمكن أن يشكل تهديدا للأمن القومي للمغرب إذا استمر حج المغاربة إلى وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر لأخبارهم، حيث أن خصوم المغرب الاستراتيجيين يمكنهم اختراق هذه الوسائط وزرع بذور الفتنة داخل المجتمع عبر الأخبار الزائفة أو المحتوى المدمر للقيم.
حتى في حالة تحجيم رغبة المواطنين في المشاركة في إبداء الرأي تجاه قضايا الشأن العام في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، فالشعوب لها طرق كثيرة من أجل الترويح عن النفس. وهنا استحضر النشيد الرياضي “فبلادي ظلموني” الذي أبدعه فريق الرجاء من أجل التعبير عما يختلج أفئدة العديد من المغاربة.
هذا النشيد انتشر كالنار في الهشيم عبر دول المنطقة العربية وتداوله ملايين المواطنين العرب، بل صار يُتَداول في مجموعة من الدول العربية من طرف حركات احتجاجية عرفتها تلك البلدان. وبالعودة إلى التجربة التاريخية، يمكن التعلم من تجربة خربوشة مع القايد عيسى بن عمر التي استعملت الأغنية من أجل إيصال معاناة قبيلتها “أولاد زيد” ضد القايد عيسى مما كلفها حياتها، لكن ليس قبل أن تبصم على خلود كلمتها.
اليوم، الوقت لازال يتيح بدء مرحلة جديدة في تعامل الدولة مع الصحافة المهنية: بتشارك مع العاملين في القطاع، يمكن الخروج بإطار مرجعي يؤطر لعمل الصحافيين، ويحميهم من المتابعة في حال تأدية مهامهم. كما يمكن أن تكون هذه المرحلة بداية تأطير لما يسمى “صحافة المواطن” وناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا في ظل التأثير الكبير الذي تلحقه بالمجتمع والتحولات العميقة التي تساهم في تشكلها داخله.