story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
المؤسسة الملكية |

في ذكرى وفاته.. محمد الخامس السلطان الذي اختارته فرنسا أميرا وخيب آمالها ثائرا

ص ص

تمر اليوم الذكرى الـ 66 لرحيل الملك محمد الخامس، الذي لعب دوراً رئيسياً في مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني باصطفافه إلى جانب الحركة الوطنية، دفاعا عن سيادة المغرب وتحقيق استقلاله. إذ توفي في 10 رمضان 1380 هـ الموافق لـ 26 فبراير 1961 بعد خمس سنوات من استقلال المغرب، وذلك بعد أعوام قضاها في المنفى مع أسرته قبل عودته إلى البلاد.

النشأة

وُلد محمد ابن السلطان المولى يوسف، في 10 غشت 1909 بمدينة فاس عاصمة البلاد آنذاك، حيث قضى طفولته في القصر الملكي، وتربى في أجواء التنشئة التقليدية المحافظة للأمراء، وهو أصغر إخوته الثلاثة، ضمن عائلة حاكمة من سلالة العلويين.

وتلقى الأمير محمد بن يوسف في طفولته تعليماً عربياً تقليدياً يركز على التربية الدينية ودروس اللغة العربية وفق المناهج التقليدية، مع إدراج مبادئ أولية في اللغة الفرنسية ضمن البرنامج الدراسي، وكان يشرف على تعليمه الفقيه محمد العمري، والذي كان يعمل أساساً مترجماً لدى والده.

ويرجع المؤرخ البريطاني روم لاندو بساطة هذا التكوين التعليمي إلى أن الأمير الشاب لم يكن معداً لتولي العرش كونه الأصغر بين أبناء السلطان يوسف ابن الحسن .

لاحقاً، سعى محمد الخامس بن يوسف إلى تطوير معارفه من خلال متابعة المحاضرات في المعهد الملكي الذي أنشأه بعد توليه الحكم عام 1942، حيث التحق به إلى جانب ولي عهده الأمير مولاي الحسن، حرصاً من السلطان على استكمال تكوينه العلمي وفق العلامة والمؤرخ عبد الهادي بوطالب أحد مدرسي هذا المعهد.

عرش غير متوقع

في شبابه، لم يكن الأمير مولاي محمد يتخيل نفسه أنه سيصبح يوماً ما رمزاً وطنياً للمغاربة. كيف له أن يتوقع ذلك وهو الإبن الأصغر للسلطان مولاي يوسف؟ إذ لم يكن ضمن الحسابات ليكون وريثاً للعرش.

إلا أن وفاة والده المفاجئة في 17 نونبر 1927، دفعت الإقامة العامة الفرنسية إلى ممارسة ضغوطها لاختيار الأمير الشاب كعاهل جديد لبعده عن أي نشاط سياسي في حياة والده، أملاً في أن يكون مجرد أداة تخدم مصالحها الاستعمارية.

وبعدما كان إدريس يستعد لخلافة والده تكريساً لعرف تولية أكبر الأبناء، اتجهت الإقامة العامة للحماية الفرنسية ومعها الصدر الأعظم القوي آنذاك محمد القري إلى إعلان الأمير محمد بن يوسف، الذي كان عمره لا يتجاوز حينئذ 18 سنة، سلطاناً على المغرب يوم 18 نونبر 1927، رغم معارضة القرار من قبل عدد من الأعيان والفقهاء “الذين استدعوا للتوقيع على عقد البيعة، بعد تدخل القوات المسلحة بشكل ما”، حسب مراقب الأحباس في فاس آنذاك جوزيف لوكسيوني.

ويقول لوكسيوني، في معرض حديثه عن وقائع اختيار العاهل المغربي الجديد: “برز سؤال حول تأثير اختيار تيودور استيك (المقيم العام الفرنسي) لسيدي محمد على حساب مولاي إدريس الذي يمكن أن يدعي أحقيته في الخلافة. لقد ناقشنا ذلك كثيراً سواء في إدارة الشؤون الشريفة أو في القصر، خاصة وأن الوزير الأكبر لم يغادر فاس، بعدما تقرر كل شيء في الرباط”.

ويضيف: “هكذا في أقل من 48 ساعة لم يعد سيدي محمد، أميراً منسياً بالقصر الملكي في فاس، بل صار سلطاناً للبلاد. ولأسباب مختلفة (ظروف تنصيبه، عدم كفاءته السياسية والفكرية، وميل الحماية المتزايد للإدارة المباشرة)، اعتقدت جميع الدوائر الفرنسية والمغربية أن سيدي محمد سيكون مثل والده مولاي يوسف ظلاً للجنرال المقيم العام”.

السلطان الثائر

اكتشفت سلطات الحماية لاحقاً أن حساباتها كانت غير دقيقة، عندما تحول الأمير الذي نصبته سلطاناً إلى ثائر وطني ضدها، فعلى الرغم من أن محمد بن يوسف كان يمارس سلطاته السيادية تحت إشراف الحماية، إلا أنه تحدى القيود المفروضة عليه وبدأ في بناء علاقات وثيقة مع قادة الحركة الوطنية، التي دعم مطالبها الإصلاحية قبل أن تتطور إلى المطالبة بالاستقلال، وهو ما تجسد في وثيقة 11 يناير 1944 التاريخية.

وتواصل مسلسل الشد والجذب بين السلطان محمد الخامس وسلطات الاستعمار من خلال الإشارات التي كان يطلقها تجاه تأكيد سيادة البلد بدءاً من معارضة الظهير البربري، إلى أن دخل في تحدي رفض التوقيع على القوانين التي تصدر شكلياً باسم الملك، وهو ما استفز فرنسا وأعوانها داخل البلاد، لتبدأ الضغوط والمناورات من أجل إبعاده عن المشهد.

وخلال زيارة له وُصفت بالتاريخية إلى مدينة طنجة في أقصى الشمال، بتاريخ 9 أبريل 1947، حين كانت خاضعة لإدارة دولية، شدد السلطان في خطابه على وحدة تراب المملكة من شمال المغرب إلى أقصى جنوبه، وعلى إثر ذلك تصاعدت الضغوط من قبل الحماية الفرنسية في عهد الجنرال جوان الذي وجه إنذاراً للسلطان محمد بن يوسف يدعوه فيه إلى التبرؤ من حزب الاستقلال علناً أو التنازل على العرش وإلا فإنه سيخلع عنوة، وبعده في عهد الجنرال غيوم.

وأسفرت الضغوط في نهاية المطاف عن نفي السلطان يوم 20 غشت 1953 إلى جزيرة كورسيكا، ثم أبعِد لاحقاً بتاريخ 2 يناير 1954 إلى جزيرة مدغشقر جنوب القارة الإفريقية. وهو ما أشعل ثورة شعبية.

العودة والحرية

لكن هل كانت النهاية فعلاً؟ كلا هذا التاريخ يرمز إلى اليوم لذكرى انبعاث ثورة الملك والشعب، حيث ارتفعت وتيرة عمليات المقاومة، والمظاهرات المطالبة بعودة السلطان المغربي إلى أن تحققت بالفعل بعدما انطلقت مفاوضات إيكس ليبان بين السلطات الفرنسية وممثلي الحركة الوطنية يوم 23 غشت 1955 في فرنسا، والتي أسفرت عن تنحية السلطان الصوري ابن عرفة وتشكيل حكومة وطنية.

وبعد ذلك بأربعة أشهر، عاد السلطان محمد بن يوسف من منفاه إلى أرض الوطن بتاريخ 16 نونبر 1955، ليلقي خطابه الشهير بعد يومين في 18 نونبر بمناسبة عيد العرش الذي سيخلد فيما بعد تاريخ عيد الاستقلال، وذلك وسط ترحيب حاشد من الشعب الذي زف له بشرى الحرية قائلاً: “لقد انتهى عهد الحجر والحماية وبزغ فجر الحرية والاستقلال”، وأضاف: “لقد أخلصت كما أخلصت، وأديت الواجب كما أديت.. رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد البناء والتشييد والتعليم”.

وزكى محمد الخامس، الذي سيحول لقبه من “السلطان” ذي الحمولة التقليدية إلى “الملك”، تشكيل أول حكومة وطنية برئاسة أمبارك البكاي تركزت مهمتها على مواصلة التفاوض مع فرنسا من أجل الاسترجاع الكامل لاستقلال المملكة، وهو ما تحقق بالتوقيع على وثيقة الاستقلال يوم 2 مارس 1956.

وعلى مدى ثلاثة عقود، تلاشت الآمال الاستعمارية في أن يكون السلطان الشاب مجرد “دمية رمزية” تدعم الإدارة الفرنسية، فقد أظهر الملك محمد الخامس معارضة صريحة للاستعمار باصطفافه إلى جانب الحركة الوطنية ودعمه مطالبها الشعبية، وهو ما كلفه النفي خارج الوطن.

بناء المملكة الجديدة

ومباشرة بعد استرجاعه لمنطقة الحماية الفرنسية، وجه الملك مجهوداته نحو استكمال الوحدة الترابية بإعادة الجيوب المتبقية تحت الاحتلال إلى المغرب، وذلك من خلال فتح مفاوضات مع إسبانيا انتهت بتوقيع معاهدة مدريد التي وضعت حداً للحماية الإسبانية في المنطقة الشمالية بتاريخ 7 أبريل 1956.

وفي 3 غشت 1956، أعلن محمد الخامس بموجب مرسوم ملكي تأسيس المجلس الوطني الاستشاري الذي ترأسه آنذاك السياسي المهدي بن بركة مشكلاً نواة البرلمان المغربي، وضم 76 عضواً منبثقين عن الحركة الوطنية المغربية، بالإضافة إلى علماء ونخبة المثقفين والنقابيين الذين وقع اختيارهم من قبل الملك.

كما أصدر داخلياً قانون الحريات العامة سنة 1958، وأسس المجلس الدستوري الذي أعد مشروع الدستور سنة 1960، أما خارجياً فنظم محمد الخامس في السنة ذاتها رحلة إلى فلسطين ومخيمات اللاجئين معلناً في خطاب تاريخي تبني القضية الفلسطينية قضية وطنية، كما حرص عل دعم حركة التحرير الجزائرية في مقاومتها للاستعمار الفرنسي، وإرساء الوحدة الإفريقية من خلال استضافة مؤتمر الدار البيضاء سنة 1960 بحضور أبرز الشخصيات الإفريقية.

رحيل الملك

وفي فبراير 1961، أعلن ولي العهد الأمير الحسن وفاة والده الملك محمد الخامس إثر عملية جراحية وصفت بالبسيطة، في رواية رسمية تعرضت “للتشكيك من قبل عدة أصوات” بينها المؤرخ عبد الكريم الفيلالي والقيادي في جيش التحرير الفقيه محمد البصري، والسياسي الذي قاد حكومة 1958 عبد الله إبراهيم الذي أشار إلى أن الملك الراحل سافر إلى سويسرا من أجل العلاج بسبب غيبوبة متقطعة، قبل اكتشاف معاناته من سرطان في الأذن دون أي تنبيه من الطبيب السويسري إلى ضرورة التدخل الجراحي.

وزادت الوضعية الصحية للملك محمد الخامس سوءاً بعد عودته، حسب المصدر ذاته، ما تطلب استدعاء الطبيب السويسري من أجل الجراحة، لكن عدم إيجاد كمية من الدم توافق فصيلته أسفر عن رحيل الملك محمد الخامس متأثراً بآلامه عن عمر ناهز 52 عاماً.

لتنتهي حكاية حياة سلطان ثائر وقائد وطني بعد مسار توج خلاله ملكاً في قلوب المغاربة الذين قاد معهم معركة الحرية والاستقلال، ليبدأ عهد آخر في تاريخ الدولة المغربية بقيادة ابنه الملك الحسن الثاني.

يقول جوزيف لوكسيوني: “تصرف كرجل دولة، وحصل (محمد الخامس) على استقلال بلاده بعد صراع مرير، خلال 13 سنة، لم يتوان فيها عن بذل التضحية بنفسه، فوضعه التاريخ في طليعة الملوك العظام للمغرب”.