story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

في بلادنا.. هل العلاج امتياز أم حق؟

ص ص

ارتأيت أن أطرح هذا السؤال الاستنكاري وأحاول علنا أن أفكر في إجابات له، بعد أن شاءت الأقدار أن أجد نفسي في موضع لم أكن أحسب أني سأقف فيه طويلًا: موضع المريض الذي لا يكتفي بألم الجسد فقط، إنما يضطر إلى استكشاف الألم الكامن في تفاصيل المنظومة الصحية نفسها.

لم تكن رحلة يوم ولا مشاهد عابرة؛ أسابيع من التنقل شبه اليومي بين مصحات خاصة ومستشفيات عمومية في الرباط، فتحت أمامي نافذة واسعة على واقعٍ لم أعد أكتفي بسماعه في شكاوى الناس أو قراءته في تقارير صحفية. وما بين ما كنت أسمع وما عاينت، مسافة شاسعة لم تختصرها كل الكلمات السابقة.

في ردهات المستشفى العمومي الكبير الذي قصدته أولًا، كان الانتظار سيد اللحظة: لا ينتظر المرء فقط دوره للولوج إلى مكتب أو قسم، بل ينتظر أيضا أن يعترف به المكان ذاته كمريض لا مجرد رقم على ورقة. كانت قاعات الانتظار مكتظة بأجساد متعبة، ووجوهٍ أكثر تعبًا، كأنها لم تأت لتطلب الدواء بقدر ما جاءت لتؤدي طقسا يوميا اسمه «الانتظار».
ورجال الأمن الخاص يوزعون الأوامر والنظرات المستعلية، وكأن المريض متهم يستحق المراقبة أكثر مما يستحق العطف.

وإذا تجرأ أحدهم على السؤال، فسيجد في استقبال صوته ممرضا متأهبا ليذكره ضمنا – إلا من رحم ربي – بأن الكلمات لها ثمن، وأن العناية حتى في حدودها الدنيا لا تُقدَّم مجانًا، بل تُستل من جيبك قبل أن تُمنح لأذنك. أما العجوز أو المرأة الحامل أو الطفل الصغير، فلا ينالهم من ذلك سوى شظايا اهتمام سريع لا يُبنى عليه شيء.

هذه الصورة لم تكن صادمة فقط لأنها قاسية، ولكن لأنها تُعري وهما جماعيا تسوقه الخرجات الحكومية الرسمية: أننا نسير بخطى ثابتة نحو «منظومة صحية تليق بالمواطن وتحفظ له كرامته». واقعًا، ما رأيته لم يحفظ إلا الإحساس بالفوارق الطبقية، ولم يترك للمريض إلا أن يتساءل: كيف تحول المرض من محنة إنسانية إلى امتحان لجيبه وكرامته معا؟

لم يكن المشهد في المصحات الخاصة أقل إيلاما وإن بدا في الظاهر أكثر «أناقة». هنا، يدفع المرء ليشتري ليس فقط خبرة الطبيب، بل أيضا ابتسامة الموظف ولطف الممرضة وملامح الاهتمام المصطنع. كل شيء له ثمن محدد، حتى الكلمات التي تقال قبل الكشف تقاس بما دُفع في مكتب الأداء.

وفي لحظة يصعب تجاوزها، وأنا في مكتب الأداء، عاينتُ موظفة مالية تُحدث ممرضة قائلة: «عنداك تخليها تخرج، والله وما حطات خمسة دالمليون لا خرجات». عبارة صريحة، تُعرّي بوقاحة الذهنية العميقة التي تحكم هذه المصحات: الجسد رهينة، والعلاج امتياز مشروط بالدفع المسبق.

بعد هذه المشاهد، وجدتني لوهلة أرى في المصحات الخاصة فلسفة تشبه روح المؤسسات البنكية: كلاهما يبيع الأمل، لا الحقيقة؛ والقادر فقط على الأداء يظفر بورقة القبول. لكنّ الفارق أن الزبون في البنك يشتري مالًا، أما هنا فيشتري حقه الطبيعي، حق العلاج والتطبيب. هذا التحوّل الجذري من الحق إلى الامتياز، هو بيت القصيد في أزمة الصحة عندنا: أن نطبع مع تحول الجسد إلى سلعة، وتحول المرض فرصةً اقتصادية.

حين تخبرنا الحكومة أننا نسير نحو تعميم التغطية الصحية أو تجويد الخدمات، فلا شيء مما رأيته يُقنعني بأن تلك الشعارات تتجاوز الورق. لأن السياسة الصحية لا تُقاس بعدد البلاغات ولا ببهاء الأرقام، إنما تُقاس بما يجده المريض البسيط حين يقف أمام موظف استقبال، أو حين يبحث عن سرير شاغر في قسم المستعجلات. تُقاس بمدى شعوره بأنه إنسان له حق، لا مشروع ربح متحرك.

وهكذا، يكتشف من يضطر أن يجلس طويلا في قاعات الانتظار، أن السياسات الصحية في جوهرها لا تداوي، بل تعيد إنتاج العلل نفسها: تفاوت طبقي سافر، منظومة ترى في الجسد سلعة، وتؤسس لعلاقة غريبة بين المريض (المواطن) والمستشفى (الدولة): علاقة زبون بمؤسسة تسعى للربح أولا، وبعده ترى إمكانية حماية الحق.

وبين المستشفى العمومي حيث تُهان الكرامة صمتًا، والمصحة الخاصة حيث تُشترى الاهتمامات بثمن، يضيع المواطن العادي مرتين: مرة كإنسان يبحث عن حقه في الصحة، ومرة كفرد يُستعمل اسمه ورقمه في نشرات الأخبار لرفع نسب التغطية وتحسين مؤشرات التنمية.

هذه التجربة الشخصية، وإن بدت قاسية بما رأيته من وجوه أرهقها الألم حتى نسيت أوجاعي أنا، تكشف لي ولغيري حقيقةً أبعد من مجرد خلل إداري أو قصور تقني: أن رأس المال حين ينتقل إلى قلب المنظومة الصحية، لا يكتفي فقط بأن يُفسد العلاقة البسيطة بين الطبيب ومريضه، بل بدقة أكثر، يحول من يفترض أن يداوي إلى تاجر يساوم، ومن يُفترض أن يحمي الأرواح إلى محاسب جامد لا يرى سوى أرقام تتحرك بين الدفاتر.

ولذلك، لستُ أطالب من خلال هذه الكلمات بشيء خارج الممكن؛ لا بمعجزات طبية ولا بقفزات إدارية. فقط أن نستعيد البديهي: أن يكون الإنسان هو الأصل لا الوسيلة؛ وأن يكون المرض محنة يُحاط فيها بالرعاية، لا فرصة لاستثمار ربح سريع؛ وأن نتذكر أن الحق في الصحة مبدأ إنساني وليس سلعة، أو بندا في تقرير حكومي فقط.

هذا بعضُ ما يكشفه المرض لمن يجرؤ على التأمل فيما وراء الألم نفسه: أن العدالة الصحية لا تُقاس بعدد الأجهزة الحديثة ولا بفخامة المباني، إنما تُقاس بقدر الرحمة والإنصاف الذي يلقاه المريض البسيط في أحلك لحظاته.

وبين ما هو كائن وما يُقال إنه سيكون، تظل التجربة الشخصية أصدق الشهادات: فما يُرى من الداخل لا يشبه أبدًا ما يُكتب على اللافتات في الخارج.