story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
ثقافة |

في الذكرى 25 لعيد العرش.. الروائي عبد الكريم جويطي يكتب: الملك القريب..

ص ص

خصّ الكاتب والروائي عبد الكريم جويطي العدد الخاص من مجلة “لسان المغرب” الصادر بمناسبة الذكرى 25 لوصول الملك محمد السادس إلى الحكم، بمساهمة هذا نصها الكامل:

“كان لي شرف تقديم مشروعي دار الثقافة لمدينتي قصبة تادلا وبني ملال لجلالة الملك. في المرتين كان جلالته سمحا كريما و بشوشا. عمد من الوهلة الأولى إلى جعلي في وضع مريح. يسأل أسئلة ويكتفي بالجواب حتى ولو كان ناقصا أو مرتبكًا.

لقد حرص بالأساس على ألا تبقى دور الثقافة هياكل فارغة، وإنما بؤرًا لتفتح مواهب الشباب وتهذيب أذواقهم وصقل ملكاتهم. قضى جلالته في زياراته لبني ملال أيامًا، يستقصي أحوال المنطقة، يلتقي الناس ويستمع لهم، ويدرس إمكانيات إنصاف بلاد تادلا التي عانت من حيف تاريخي.

أنا الذي مشيت وأنا طفل، راجلا رفقة أمي وجدتي، طويلا، طويلًا جدًا، حتى آخر الدنيا، لنرى الملك الراحل وهو يدشن معمل السكر. وجعت ونمت من التعب وصحوت مع جلبة مرور السيارات الكثيرة، وفاتني أن أرى الملك.

أنا الذي أُخرجت، وأنا فتى مع فتيان الثانوية، لنرى الملك الراحل، وقضينا نهارًا كاملًا تحت الشمس الحارقة، متعبين وجوعى نترقب مروره. وحين كانت سيارته بالقرب منا تطاول الكبار على رؤوس أصابعهم وبسواعدهم القوية، وحجبوا عنا أنا وأصحابي رؤية الملك.

لهذا فإن أول إحساس يراودني، وأنا أكتب هذه الورقة عن مرور 25 سنة من حكم محمد السادس، هو أنه ملك مواطن قريب جدًا منا، يمكننا أن نراه وأن نجالسه ونحادثه. بل يمكنه أن يقتسم معنا نفس المكان بروتينه القاتل لأيام، ملك حريص، يتتبع أدق التفاصيل ولا ينسى.

في ختام زيارته الأخيرة لمدينة بني ملال، قرأ وزير الداخلية رسالة ملكية موجهة لمنتخبي ونخب المدينة، استعرض فيها ما ينقص “القرية الكبيرة” لتصير مدينة. ولم يذكر في مواطن النقص الكثيرة التي عددتها الرسالة الجانب الثقافي، لأن جلالته على علم بالمجهودات التي بذلت مركزيا وجهويا لتوفير مؤسسات ثقافية تغطي حاجيات الساكنة.

لا يمكنني كملالي، عاش حياته كلها في بني ملال، إلا أن أكون ممتنا للملك الذي أشرف على تأهيل مدينة مغضوب عليها، يعيث فيها فساد الإدارة والعائلات الكبيرة. مدينة كانت السياقة فيها قطعة من العذاب، إذ لا تجد فيها مائة متر من الاسفلت صالحة للسير. مدينة تتراكم فيها الأزبال والكآبة والفوضى، وصارت في عهده مدينة نظيفة جدًا صالحة للسير.

مدينة تحاول أن تنظم نفسها وأن توفر الخدمات اللازمة لساكنيها، بشوارع كبيرة، رغم توسعها الأرعن والذي صنعه بالأساس شره لوبيات العقار الوطنية، فإن ربطها بطريق سيار مع الدار البيضاء، وتمكينها من مطار، وربطها قريبًا بخط سككي حديدي يربطها بالدار البيضاء، وبطريق سيار يربطها بفاس ومراكش، وتمكينها من منطقة صناعية كبرى أكروبول، أخرجها شيئا فشيئا من قدر القرية الكبيرة إلى أمل المدينة المزهرة.

ما حدث محليا يمكن تعميمه على المغرب ككل، فقد حرص جلالته ومنذ توليه العرش على تجهيز المغرب، لا لمواجهة تحديات التنمية وجلب الاستثمارات الداخلية والخارجية فقط، وإنما لتوفير ما يحتاجه بلد وشعب ليقف على رجليه ويجري في سباق الأمم.

لقد صنعت سياسة الأوراش الكبرى (طرق سيارة تربط المحاور الكبرى للتراب الوطني، موانئ كبرى تربط المغرب بالعالم، مطارات لائقة، القطار فائق السرعة، تهيئة المناطق الصناعية و المالية و التقنية، تمتين وتوسعة الشبكة الطرقية، تبسيط مساطر الاستثمار وخلق الشباك الوحيد…) مغربًا آخر يثير الاعجاب والغيرة لدى المتتبع الخارجي.

أذكر أن إحدى قريبات الراحل إدمون عمران المليح، زارت المغرب في سنة 2008، بعد آخر زيارة لها في منتصف التسعينيات، فسمعتها تقول له بإعجاب كبير، بأنها وجدت بلدا آخر يمضي بسرعة نحو التقدم. وقالت له أيضا: يا إلهي، كم تغيرت نحو الأفضل مدن الشمال.

إن كانت سياسة الملك الراحل قد انبنت على التواصل الدائم مع الشعب من خلال الخطب والحوارات، في نزوع بيداغوجي لتثبيت فكرة الدولة ومصالحها وإكراهاتها في الأذهان، فإن جلالة الملك محمد السادس قضى الجزء الأكبر من سنوات حكمه الماضية في الميدان، يحث على فضيلة العمل، يشرف على المشاريع المهيكلة ويتتبع إنجازها بدقة، والصورة التي تتبادر إلى الذهن حين تفكر في ذكرى 25 سنة من حكمه، هي صورة ملك متواضع يسير للقاء الناس وتحيتهم وسماع شروحات حول مشاريع تهم حياتهم .

بما أنني أهتم بالتاريخ فإنني أرى، وبما أن التاريخ يعيد نفسه، وإن بأشكال مخاتلة، بأن الزمن الذي تولى فيه محمد السادس الحكم يشبه كثيرًا الزمن الذي تولى فيه جده سيدي محمد بن عبد الله الحكم.

كانت مشاريعهما لمواجهة بلد منهك، مهدد بالسكتة القلبية الداخلية والأطماع الخارجية ومشاريع التفكيك الشيطانية، متشابهة. أعتقد جازمًا بأنهما لا يشتركان في الاسم فحسب، وإنما في مقومات الشخصية والقدرة على مواجهة التحديات الكبيرة بثبات وتبصر أيضًا.

ومثلما بادر سيدي محمد بن عبد الله لربط المغرب بالتجارة العالمية لمواجهة حصار وشلل مدن الشمال بإحياء ميناء أنفا الخامل منذ قرون، وإنشاء مدينة الصويرة، وجعلها المدينة التي ستنظم تجارة المغرب مع العالم.

بادر محمد السادس منذ توليه الحكم لإنشاء ميناء طنجة المتوسط الذي صار في مدة قصيرة من أكبر موانئ الحاويات في العالم، ومن بعده تشييد ميناء الناظور الذي سيتخصص في اللوجستيك، وميناء الداخلة المخصص لتمتين الروابط الاقتصادية بدول الساحل وإفريقيا.

ومثلما ضبط سيدي محمد بن عبد الله الجيش وعمال الأقاليم، وأخمد بالقوة واللين السمح قلاقل القبائل السائبة، وأنهى في سابقة لم يتجرأ عليها أي سلطان قبله، جبروت وتشويش زاوية على مشروعه الاقتصادي في ربط بلاد تادلا ببلاد الشاوية لتنشيط ميناء أنفا، بعد إبرامه لاتفاقية تجارية تقضي بتصدير القمح لاسبانيا، فقد خرب وحرق بدون تردد زاوية أبي الجعد ونفى شيخها، فإن محمد السادس قد واجه ومنذ بداية حكمه، في تقديري، مشكلتين شبيهتين كان عليه أن يجد لهما حلا سريعًا، أولهما مشكل موجة الاسلام السياسي، والتي تمت رعايتها ومنذ عقود بأيد داخلية و خارجية، وسيطرت على الجامعات و المعاهد وبنت شبكاتها في الحياة العامة.

وكأي حركة إيديولوجية تتطلع للحكم فهي ستلد الاصلاحي الصبور الذي يمضي بأناة نحو هدفه، وقد تلد العنيف والارهابي المستعجل.

ورغم بعض العمليات الارهابية هنا وهناك، فقد تمكن المغرب و بفطنة عاهله من تحييد و احتواء ما يمكن أن يضر بحاضر و مستقبل الوطن في الظاهرة، و أن يدمج الباقي في صيرورة الحياة السياسية و الدينية للبلد، وفق ثوابتها كما أرسيت منذ قرون.

أما ثانيهما فهو مشكل هوية المغاربة خصوصًا في بعدها الأمازيغي القاعدي. ومنذ خطاب أجدير التاريخي، و إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وتبني حرف تيفيناغ، وحتى ترسيم الأمازيغية في دستور 2011 وباقي مكونات الهوية المغربية المتعددة، تمكن العاهل من إبطال مشاريع فتنة غافية تحت المطالب المشروعة للحركة، وجنب المغرب صراعا هوياتيا ما كان لأحد من أطرافه أن يخرج منه فائزًا.

ومثلما حرص سيدي محمد بن عبد الله على مكانة المغرب الدولية، وعمل على أن يكون المغرب بلدا يوثق فيه، ويكون له حضور وهيبة بين الأمم. ويمكن الرجوع لكتاب جورج هوست عن سلطان، كان يقرع الملوك وينذرهم، ويحرص على كرامة و سلامة المغاربة أينما كانوا.

فقد بنى محمد السادس خارجية حكيمة أرست للمغرب مكانة محترمة في المحافل الدولية، إذ لم يورط المغرب في خصومات بعيدة بين بلدان يقف على مسافة واحدة بينها، وقلل من انخراط المغرب في المهاترات العربية-العربية، وفي السعي المستحيل للم شمل عربي لن يلتئم، وحرره أيضا من أوهام الزعامة المستشرية في العالم العربي، وبنى سياسة خارجية براغماتية لا تبحث عن الإبهار وإنما المنفعة، ورابح رابح، وهي لغة العصر الناجعة.

وكمواطن عاش فصول ابتزاز الإعلام الفرنسي المرير للمغرب، فقد أراحنا جلالته من ذلك الزمن التي كانت فيه مقالة تصدر في جريدة فرنسية، كفيلة بتعكير المزاج الوطني لأيام، وبشحد الردود لأيام أخرى. ومنذ فضيحة ضبط صحفيين فرنسيين يقايضان مشروع كتاب لهما بمبلغ مالي، عرف الإعلام الفرنسي ونخبه بأن زمن الابتزاز قد ولى.

كان سيدي محمد بن عبد الله، كما قال لجورج هوست، يعرف بأن مشكل المغرب المزمن يكمن في جواره السيء. وسيذكر التاريخ لمحمد السادس بأنه كان ذكيا جدًا في التعاطي مع مشاكل الجوار.

ودون الخوض في التفاصيل، فبكثير من الصبر والحكمة ومنذ التصرف الأرعن لخوسيه أزنار في قضية جزيرة ليلى، وبعد شد و جذب إمتدا لسنوات، تمكن من جر إسبانيا لدائرة العقل والمصالح المشتركة، وحكم التاريخ الذي يقضي بأن المغرب قدر إسبانيا، وإسبانيا قدر المغرب.

أما الجزائر، فإن جلالته ما انفك يمد لها يد الأخوة، ويدعوها لبناء أواصر تعاون وتآزر يمضيان بالشعبين نحو مصير مشرق. بغصن زيتون في يد وببندقية في اليد الأخرى، كان المغرب يظهر دوما لمن يعنيه الأمر نواياه الطيبة، ويظهر له أيضا بأنه لن يتخلى عن حقوقه في ترابه الوطني، مهما كلفه ذلك من تضحيات.

كما أن التاريخ سيذكر له ما حققه من تنمية في أقاليمنا الجنوبية، والصرامة الشديدة في التصدي لمناورات الأعداء السياسية والعسكرية، بأنه أنهى، أو يكاد، مشكل الصحراء المغربية، وحرم أعداء المغرب من محاصرته ومنعه من التواصل الشامل مع إفريقيا…

25 سنة مدة طويلة في حياة شخص، لكنها لا شيء في تاريخ شعب يمتد لقرون. غير أن التحولات التي عرفها العالم في ربع قرن الأخير، لم يكن يعرفها في قرنين أو ثلاثة فيما مضى: استفراد الولايات المتحدة الأمريكية بشؤون العالم، خطر الإرهاب، التغيرات المناخية وفداحة تأثيرها على المجال الفلاحي، الحروب المتواصلة، أزمات مالية و اقتصادية عالمية، تآكل المدخرات الفردية والجماعية، الصعود المظفر لوسائل التواصل الاجتماعي والطرق السيارة للمعلومات، تصدر أشكال وصيغ من الفاشيست واليمينيين المتطرفين والشعبويين والتافهين المشهد العالمي ، تناسل الأوبئة الفتاكة، ومحاولات تدمير الخصوصيات الثقافية والهوياتية، الحروب بأشكال ناعمة…

طبعًا سيكون للمغرب نصيب من كل هذا، وسيدركه ما سيدرك كل بلدان العالم. ستتآكل نخبه السياسة التقليدية، وستولد نخب بلا ميزات، على حد تعبير الروائي الألماني روبرت ميزل. وسينفض معظم الناس، وخصوصًا الكفاءات، يدهم من شؤون السياسة، ومن الشأن العام. وبما أن السياسة، مثل الطبيعة تكره الفراغ، سيملأ المقاعد الفارغة أناس بلا خلفية سياسية أو ثقافية، يميلون حيث تميل الريح، ويتلونون بلون الوقت.

سيتم تجريب ما جُرب سابقًا لتنفيس الاختناق السياسي، وستنجي الألطاف الإلهية ويقظة المدن المغرب من سيطرة بعض الوجوه على الشأن العام الوطني. وسيعلن جلالة الملك بلا لبس، وفي العديد من خطبه، عن عدم رضاه عن الفاعل السياسي المتخاذل والمتقاعس عن خدمة الصالح العام، والمسارع لخدمة أغراضه الخاصة.

بدون واقع سياسي يشحذ الهمم ويزرع الآمال، ويدفع الناس للانخراط في مشروع مجتمعي، تتعاظم الأخطار، ولا تجد الدولة في مواجهة الأزمات إلا نفسها و أدواتها التقليدية، أو تجد تلقائية الناس في التضامن والانضباط، كما وقع في أزمتي كرونا و زلزال الحوز، و ما أنجزه المغاربة جميعهم في خضم الأزمتين أبهر العالم.

مازال هناك فساد ينخر الكثير من دواليب الدولة، ومازال من لا يستحقون يتمتعون بالريع، وتغلب أحيانًا القبضة الأمنية على اليد الحانية التي تتفهم غضب الناس وانفلات أفواههم وأقلامهم، ونعمد للترقيع، كما في التعليم والصحة، عوض إيجاد حلول جذرية لمشاكلهما، حلول تراهن بالأساس على بناء شخص مغربي قادر على مجابهة تحديات المستقبل.

مازالت هناك فروق مجالية بين مناطق المغرب، وارتكبت أخطاء جسيمة في تدبير الثروة المائية، من قبيل إهدار الفرشة المائية في ري منتوجات فلاحية معدة للتصدير فقط، ينبغي عدم تكرارها.

في ختام هذه الورقة، بمناسبة مرور 25 سنة من حكم الملك محمد السادس، أتمنى لجلالته موفور الصحة والهناء، فالمغرب في حاجة له لعقود قادمة، وأتمنى أن يشمل بعطفه ورحمته معتقلي الريف، والصحافيين: توفيق بوعشرين، وسليمان الريسوني، وعمر الراضي، وكل من اعتقل بسبب رأي من أرائه.

حفظ الله ملك المغرب”.

• لتحميل نسخة من العدد الخاص لمجلة “لسان المغرب”، وقراءة مساهمات 10 شخصيات أكاديمية وسياسية، يمكن الضغط على الرابط