فيودالية ترامب الرقمية
أعادتني مشاهد تنصيب الرئيس الأمريكي القديم-الجديد، دونالد ترامب، وما رافقها من حضور قوي لكبار رجال الأعمال والقائمين على تدبير كبار عمالقة المنصات الرقمية الجديدة؛ إلى تفاصيل الكتاب الذي أرشدني إليه أحد الأصدقاء مؤخرا، والذي يحمل عنوان “الفيودالية الرقمية” (digital feudalism)، للكاتب ديفيد أرديتي.
نحن بالفعل أمام إعادة تشكيل نظام إقطاعي، ببعد كوني هذه المرة، يتخذ فيه مالكو المنصات الرقمية وعمالقة الأنترنت، كل ما تحتاجه منظومة إنتاج القيمة في الزمن المعاصر، بينما نكتفي نحن عموم الناس، بتوزيع أدوار العبيد، منا من يظفر بفرصة الخدمة داخل “البيت”، ومنا من يقتصر حظه على الخدمة في “الحقل”.
ففي عالمٍ حيث تُصنع القرارات في فضاءات رقمية يملك مفاتيحها القلة، يتضح أن الإقطاعية الرقمية ليست مجرد مفهوم أكاديمي، بل واقع يومي يعيد إنتاج علاقات القوة والهيمنة بشكل مقلق، وبشكل خاص عندما يتحلّق هؤلاء حول رئيس أقوى دولة على الإطلاق عرقتها البشرية منذ وجدت فوق البسيطة.
وكما أشار ديفيد أرديتي في كتابه، فإن الخوارزميات ليست أدوات بريئة، بل هي كائنات عملاقة غير مرئية، تعيد تشكيل اقتصادات العالم ومجتمعاته وفقا لمصالح نخبة معيّنة. لنجد أنفسنا، خاصة في الدول النامية مثل المغرب، أمام سؤال وجودي: كيف يمكن لبلد يُصارع على جبهات التنمية والتعليم، أن يحمي سيادته الرقمية في مواجهة هذا المد العالمي؟
يشرح كتاب “الإقطاعية الرقمية” للمؤلف ديفيد أرديتي، كيفية إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في العصر الرقمي، مسلطًا الضوء على التشابه بين الهياكل الرقمية الحديثة ونظام الإقطاع الذي ساد في العصور الوسطى.
فالفيودالية الرقمية تسمح بالتحكم في الوصول إلى الموارد، بما أن الشركات الكبرى تسيطر على منصات رقمية حيوية، مما يجعل المستخدمين معتمدين عليها للوصول إلى المعلومات والخدمات، في وضع شبيه بعلاقة التبعية بين الإقطاعيين والأقنان في النظام الفيودالي القديم.
كما يسمح النظام الحالي باستغلال المحتوى الذي ينشئه المستخدمون من طرف هذه الشركات من دون تقديم مقابل عادل، مما يعزز هيمنتها ويزيد من أرباحها. حركاتنا وسكناتنا، أصواتنا وملامح وجوهنا، ضحكاتنا ولحظات غضبنا، اختياراتنا ولحظات اضطرارنا، أذواقنا وتفضيلاتنا في اللباس والألوان والنكهات… كل هذا يتحوّل إلى ثروة بين الإقطاعيين الجدد، دون أن ينالنا منه سوى الفتات.
بل إن الفيودالية الجديدة تعيد إنتاج علاقات القوة والسيطرة، بما أن عمالقة التكنولوجيا الجدد يحتكرون البيانات، ويوظفونها في توجيه الأقنان، في سلوكهم الاستهلاكي كما في اختياراتهم السياسية وقناعاتهم وآرائهم. كما توفّر هذه السطوة الرقمية إمكانية استقطاب النخب المؤثرة اقتصاديا وإعلاميا لتشكيل سياسات تنحاز إلى مصالح تلك النخب.
فخلال حملة ترامب لولايته الثانية، أظهر فريق عمله استغلالا ممنهجا للمنصات الرقمية لتوجيه الرأي العام عبر خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي. كما استثمرت حملة ترامب بشكل كبير في تحليل البيانات الضخمة لتفصيل الرسائل السياسية “على المقاس”، عبر وسائل التواصل، مما يعكس نوعا من التحكم في وصول الناخبين إلى المعلومات، مشابها لتحكم الشركات الرقمية بالمحتوى الذي يصل للمستخدمين.
ويفسّر أرديتي في كتابه، كيف تعزّز الإقطاعية الرقمية الجديدة مركزية القوة، وتحد من تنوع الأصوات وإقصاء المخالفين، من خلال تضخيم رسائل ترامب وأنصاره، في مقابل مواجهة الأصوات المعارضة قيودا مثل تصنيف المحتوى على أنه مسيء، أو الحد من انتشاره.
ومن خلال مفهوم “غرفة الصدى” الذي بات جزءا من كلاسيكيات هذا المجال، يمكن القول إن ترامب يحاصر كتلة ناخبين، وهم بالملايين، داخل غرفة محكمة الإغلاق، يحرسها عمالقة الأنترنت الجدد، وهم مجموعة حلفائه المالكين للمنصات الرقمية الكبرى.
فريق “الموت” الذي ظهر محيطا بالرئيس الأمريكي هذا الأسبوع، يضمّ أسماء مثل إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركات “تسلا” و”سبيس إكس” ومالك منصة “إكس” (تويتر سابقا)… وهو الذي لعب دورا محوريا في نجاح ترامب، فتم تعيينه في منصب قيادي في مجلس حكومي جديد يُدعى “إدارة الكفاءة الحكومية”، كما أصبح أحد أبرز مستشاري الرئيس.
ثم هناك، ولو على بعد خطوة صغيرة، مارك زوكربيرغ: مؤسس شركة فيسبوك (ميتا حاليا). فعلى الرغم من التوترات السابقة بينه وبين ترامب، إلا أن زوكربيرغ تصالح معه بعد الانتخابات، وأجرى تغييرات في سياسات الإشراف على المحتوى على منصاته، كما تبرعت شركة ميتا بمبلغ مليون دولار لحفل التنصيب.
وغير بعيد من الاسمين السابقين، نجد جيف بيزوس، مؤسس شركة أمازون ومالك صحيفة “واشنطن بوست” الذي خرق تقليدا راسخا في هذه الأخيرة، عندما منع هيئة تحريرها من مساندة المرشحة الديمقراطية في الانتخابات الأخيرة. كما يقتضي الخط التحريري للصحيفة. ورغم خلافاته السابقة مع ترامب، حضر بيزوس حفل التنصيب، مما يشير إلى تقارب بينه وبين إدارة الرئيس الأمريكي الجديد.
كما يوجد ضمن الكوكبة المحيطة بترامب سام ألتمان، رائد في مجال الذكاء الاصطناعي ورئيس شركة “أوبن إي آي”، والذي كان من بين الحاضرين في حفل التنصيب؛ إلى جانب السنغافوري شو تشيو، الرئيس التنفيذي لتطبيق تيك توك، الذي وعلى الرغم من التحديات القانونية التي يواجهها التطبيق في الولايات المتحدة، إلا أن حضوره في حفل التنصيب يشير إلى دور محتمل في المشهد الرقمي الأمريكي.
وتجسد هذه الشخصيات والحضور البارز لعمالقة التكنولوجيا في إدارة ترامب الثانية مفهوم “الإقطاعية الرقمية”، حيث يتعزز النفوذ المتبادل بين الحكومة وهذه الشركات العملاقة، مما يثير تساؤلات حول تأثير هذا التحالف على سياسات التكنولوجيا والمعلومات في الولايات المتحدة.
وسينعكس مفهوم “الإقطاعية الرقمية” والسيطرة التكنولوجية على الدول النامية والفقيرة مثل المغرب دون أدنى شك، متخذا أبعادا معقدة على المستويات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية. فهذه الدول تجد نفسها في موضع المتأثر أكثر من المؤثر، مما يجعلها عرضة لتحديات فريدة مرتبطة بالهيمنة الرقمية من قبل القوى العالمية والشركات التكنولوجية الكبرى.
يكفي أن الفيودالية الجديدة تفرض هيمنة مطلقة على البنيات التحتية للمنصات الرقمية، حيث يضطر الجميع إلى طلب خدمات منصات تكنولوجية عالمية مثل غوغل وفيسبوك ومايكروسوفت، دون امتلاك بدائل محلية قوية.
بل إن هذه الشركات التكنولوجية الكبرى تحصل، وبالمجان، على كميات هائلة من بيانات المستخدمين في الدول النامية دون تقديم مقابل عادل أو ضمان لحماية الخصوصية.
وبين الطموحات الهزيلة لبرنامج مثل “المغرب الرقمي 2030″، في مقابل ما أعلنه ترامب بمجرد تنصيبه من استثمارات ضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي، وأوهام السيادة الرقمية، يقف بلد مثل المغرب في مفترق طرق.
فالاستراتيجيات المعلنة تسعى لجعل الرقمنة رافعة تنموية، لكن الاعتماد الكلي على المنصات التكنولوجية الكبرى مثل فيسبوك وغوغل يعيد تشكيل العلاقة بين الدولة ومواطنيها، فيصبح المواطن مجرد منتج لبيانات يُعاد بيعها واستغلالها.
في هذا السياق، يظهر المغرب كمختبر مفتوح لتطبيق نظريات “الإقطاعية الرقمية”، حيث تتحول أدوات الاتصال إلى أدوات جديدة للسيطرة، وتُصبح الشركات العالمية بمثابة الحاكم الفعلي للفضاء العام الرقمي.
وعلى غرار غرفة الصدى التي بات من شبه المؤكد أن ترامب صنعها لناخبيه، فإن باقي المستخدمين للمنصات الكبرى لا يسلمون منها، حيث تستغل بعض القوى المهيمنة اقتصاديا وسياسيا، سلطة الخوارزميات لتعزيز مواقعها، مما يعمّق الاستقطاب السياسي ويؤثر على جودة النقاش العام، من خلال تضخيم أصوات معينة وتهميش أخرى، مما قد يؤثر بشكل غير متوازن على العمليات السياسية والانتخابية… هل تذكرون حجم إنفاق حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيسه عزيز أخنوش على هذه المنصات في الانتخابات الأخيرة؟
كل فيودالية وأنتم بخير!