فرنسا تعترف: واقعية المغرب تنتصر!
أكثرُ عبارة ميزت زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ما كرون للمغرب بعد جفاء العلاقات الذي دام لسنوات، هي العبارة التي قالها ماكرون تحت قبة البرلمان المغربي ” أنا والملك محمد السادس قررنا صياغة كتاب جديد في العلاقات بين المغرب وفرنسا”، وتعبيرُ “كتابٍ جديد” لم يأتي من فراغ، فنحن لسنا أمام فصلٍ جديد من نفس الكتاب القديم الذي يستمدُ مدادهُ من حبرِ حقبة الاستعمار والتبعية، بل نحن أمام كتابٍ جديد ينتمي لسياق الواقع السياسي الراهن الذي خطى فيه المغرب خطوات مهمة للأمام وخطت فيه فرنسا خطوات عديدة للوراء.
المغرب في العقد الأخير استطاع أن يترجمَ تقدمهُ الاقتصادي وأهميتهُ الجيوسياسية في منطقة حساسة سواء في الشرق الأوسط وشمال افريقيا (منطقة مينا) أو موقعه الافريقي الاستراتيجي والحساس في بناء عقيدة سياسية قائمة على مبدأ أساسي متمثلٍ في “المغرب أولاً” وعلى المستوى القاري “افريقيا أولاً”، وذلك ليس على أساسٍ عرقي أو قومي منغلق على غرار العديد من البلدان التي حملت نفس الشعار، ولكن على أساس ترتيب الأولويات وبناء عقيدة سياسية تخدمُ مصالح الوطن بناء على الشراكات الاستراتيجية القائمة على (رابح- رابح) ليس اقتصادياً فقط ولكن سياسياً كذلك.
تجذرت سياسة “افريقيا أولاً” في العقيدة المغربية طيلة سنوات حكم جلالة الملك محمد السادس؛ حيث تقوت عروق المغربِ افريقياً، بفعلِ اعتمادهِ على سياسة الانفتاح على إفريقيا من خلال الانضمام للاتحاد الإفريقي وتوسيع استثماراته في البنى التحتية، والزراعة، والقطاع البنكي، حيث أن المغرب يستثمرُ ما يقرب 85% من استثماراته الخارجية في أفريقيا، مما يعزز دوره كمركز استثماري في القارة، هذا الأمر عزز علاقاته مع دول الساحل وغرب إفريقيا، وقوى موقعهُ كقوة إقليمية من خلال الوساطة في النزاعات، مثل وساطتهِ في الأزمة الليبية، وتقديم نفسه كشريك استراتيجي يحافظ على الاستقرار في منطقة الساحل.
في المقابل انسحبت فرنسا من منطقة لطالما اعتبرتها “حديقتها الخلفية” افريقياً، والحديث هنا عن منطقة الساحل الغنية بالثروات؛ حيث فشل التدخل الفرنسي الذي استمر 10 سنوات من تحقيق السلام في مالي أو الساحل، بل غادرت فرنسا تاركة 75% من البلاد تحت سيطرة الميليشيات المسلحة المدعومة من فاغنر الروسية، ليؤثر انسحابها على مصالح فرنسا الاقتصادية وسمعتها السياسية في افريقيا.
أما سياسة “المغرب أولاً” تجسدت في العقدين الأخيرين أساسًا على مستويين اثنين، المستوى الأول هو “المستوى المحلي”؛ عبر المشاريع الضخمة المحلية وهو ما تم ترجمتهُ بتحويلِ المغرب للمنتِجِ الأول للسيارات في أفريقيا والشرق الأوسط، ليستهدف إنتاج مليون سيارة بحلول 2025، وسعيه للقيام بنفس الشيء في قطاع الطيران الذي يشهد نموًا في المغرب، وسعيهِ لزيادة حصة الصناعة في الناتج المحلي المغربي لتصلَ 23% بحلول 2030.
كما شملت مشاريع البنية التحتية الكبرى إنشاء 1,800 كيلومتر من الطرق السريعة التي سيتمُ تمديدها، وكذا تدشين موانئ استراتيجية على رأسها “ميناء طنجة-المتوسط” الذي أصبح الأكبر في البحر المتوسط، والسعي لتطوير موانئ أخرى أبرزها “ميناء الداخلة الأطلسي” الذي يُرادُ لهُ أن يكونَ منصة مغربية من أجل إفريقيا من حيث الربط التجاري، بالإضافة إلى خط القطار فائق السرعة بين طنجة والدار البيضاء، الذي سيتمددُ ليصلَ لمراكش، كما أن المغرب انخرطَ في تنظيمِ تظاهرات عالمية كفيلة بترويج القطاعات الاقتصادية والسياحية مثل تنظيمهِ المشترك لكأس العالم 2030 مع الجارتين الأوروبيين اسبانيا والبرتغال والذي يحملُ وعوداً اقتصادية وأخرى سياسية مهمة للمغرب وشركاءه.
أما دولياً فإن مبدأ “المغرب أولاً” تجسدَ أساساً في وضع الاعتراف بمغربية الصحراء شرطاً أساسياً لبناء شراكة سياسية واقتصادية بناءة مع المغرب، إيمانا من المغرب بأن ملف الصحراء أخذ من الوقت أكثر مما يستحق ووجبَ اغلاقهُ عبرَ البوابة السياسية والاقتصادية التي لا تكتفي بالمشروعية التاريخية لأن الفاعل السياسي الدولي لا يكترثُ كثيراً للمشروعية التاريخية، بل هندسَ بعضَ قوانينهِ لهدمِ أي مشروعية تاريخية من أجل تكريسِ سياسة التفريق والتفكيك مثل اختراعه لمبدأ “حق الشعوب لتقرير مصيرها”، الذي لا يُستخدمُ إلا على الشعوب والدول المغلوبِ على أمرها التي يرادُ لها أن تفكك أو تقوَّضَ سياسياً واقتصادياً.
ما يجبُ الاعترافُ بهِ هي أنَّ المغرب عندما اعتمدَ المنهج الواقعي في سياستيه الخارجية، حقق مكاسبَ حقيقية، يكفي أنهُ أظهرَ للعلن الجزائر كطرفٍ أساسي في النزاع وليس أهالي الصحراء المغاربة الذين يتبرؤون من نهج “لبوليساريو” المتطرف والموجه من قبل نظامِ الجارة الشرقية، كما أن النهج الواقعي في السياسية الخارجية المغربية جعلَ المغرب يقٍّرُ بأهمية إعادة هندسة خريطة حلفاءه؛ المغرب أدرك أنَّ السياق الراهن حجَّمَ وضع الدول الأوروبية سياسياً، خاصة فرنسا واسبانيا وألمانيا؛ هذه الدول كانت تدعي انها تنهجُ منهجَ الحياد في ملف الصحراء، وهو حياد مزيفٌ طبعاً، ليس الغاية منهُ عدمَ ازعاج الجارة الشرقية (طرف النزاع الحقيقي)، ولكن لأنًّ الدول الأوروبية كانت تنهج منهج الإدارة بـ “الأزمات” بدلَ حلها.
نهج الإدارة بـ “الأزمات جعل الدول الأوروبية وخاصة فرنسا واسبانيا (المستعمرين التاريخيين للمغرب)، تضمنُ مكاسبَ سياسية واقتصادية ضخمة من أطراف النزاع الحقيقيين (المغرب والجزائر)، لكن المغرب أدرك وهنَ الدول الأوروبية في ظلِّ السياق الحالي، وأدركَ كذلك أهمية أدواره التي بات يلعبها اقليمياً ودولياً سواء من خلال توغلهِ افريقياً، وكذا الدور الذي يلعبهُ مشرقياً (رئاسة المغرب للجنة القدس)، هذا الأمر مهدَّ لشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة أثمرت اعترافاً بمغربية الصحراء، هذا الاعتراف حرك المياه الراكدة أوروبياً وخاصة في ظلِّ استثماره مغربياً بالشكل المطلوب.
أرادَ المغرب استثمار الاعتراف الأمريكي إلى أبعد حد ممكن؛ مما مهدَّ لنشوبِ خلافات بارزة وأخرى صامتة بينه وبين شركاءه الأوروبيين التقليديين (ألمانيا واسبانيا وفرنسا)، من أجل تصفية الحسابات وترتيب الملفات؛ المغرب كانَ واضحاً وحاسماً؛ بعد الاعتراف اللاعب الغربي الأول والاكبر بمغربية الصحراء، فعلى الدول الغربية الأخرى (الأصغر) الإذعان لهذا الاعراف والاقتداء به والعمل بموجبهِ من أجل الاستفادة من شراكة بناءة مع المغرب.
وضوح المغرب أثمرَ توالي الاعترافات الأوروبية التي بدأت بألمانيا واسبانيا تجنباً لاستمرارِ الأزمة مع المغرب (أكثر شريك عقلاني في شمال افريقيا) واختتمت هذه الاعترافات باعتراف فرنسا التي منعتها غطرستها الكولونيالية، وسعيها لاستمرار وضع الإدارة بـ “الأزمة” من أن تكونَ أول من يعترفُ بمغربية الصحراء بعد الولايات المتحدة الأمريكية، قيمة توالي هذه الاعترافات مهمة، فهي لن تسرع من وتيرة حل ملف الصحراء في الأمم المتحدة وباقي المنظمات الدولية فقط ، ولكنهُ كذلك يخلخلُ سردية الجزائر الراكدة التي لطالما وظفت مصطلحات مثل الإبقاء على “الحدود الموروثة من الاستعمار”،
وبغض النظر بأنَّ الجزائر التي تعتبرُ نفسها دولة تحرر وتحرير ترددُ مثلَ هذه المصطلحات “الكولونيالية”، فإنها الآن أمام تناقضٍ حقيقي لأنَّ المحتل الكولونيالي اعترفَ صاغراً بمغربية الصحراء فهل ستظلُ الجزائر تكررُ سردية الإبقاء على “الحدود الموروثة من الاستعمار”؟
وأخيراً، يهمني أن أشيرَ بأنَّ الدور الفرنسي خاصة والأوروبي عامة رغم تراجعهِ دولياً، إلا أنهُ لازالَ ضرورياً جداً للمغرب، فبقدرِ حاجة الدول الأوروبية للمغرب، فإن المغرب في حاجة لشركائه الأوروبيين، لكن شكلَ الشراكة الحالية، قائمة على ندية حقيقية قوامها منطق (رابح- رابح)، والاتفاقيات 22 التي وقعها المغرب مع فرنسا، وكذا الشراكة الجديدة مع ألمانيا واسبانيا تظهرُ منطق الندية المطلوب مغربياً، كما تظهرُ بأن لغة المصلحة والقوة المتحرك ينتصرُ دوماً، فكما أقرت فرنسا الكولونيالية بأنَّ واقعية المغرب انتصرت، نأملُ أن يستطيع الشريك الفرنسي افهامَ الجارة الشرقية منطقَ سيرِ الأمور في ظل السياقات الحالية؛ أو بلغة أخرى نتمنى أن تفهم الجزائر أن لا خيار لديها سوى الصلح مع المغرب والاعتراف بسيادتهِ بمغربية صحراءه، وإلا كان مصيرها مزيد من العزلة والإخفاقات السياسية بسبب إصراره غير العقلاني في دعم جبهة مهزومة.