فرصنا مع غزة
أصدر النشطاء في حركة “بي دي إس المغرب”، وهي فرع للحركة العالمية الداعية لمقاطعة إسرائيل اقتصاديا، بلاغا يدعون فيه السلطات المغربية إلى انتهاز “فرصة” صدور قرار محكمة العدل الدولية من أجل قطع جميع العلاقات مع الاحتلال الصهيوني.
تفترض هذه الدعوة أن الدولة المغربية تحتاج إلى فرصة كي تنتهزها وتتخلص من شيء لا ترغب فيه ولا تريده، هو العلاقات الرسمية مع إسرائيل، والواقع أن خطوة “التطبيع” وإن جاءت في سياق لا يخلو من اضطرار وإكراه، إلا أن السرعة التي تقدم بها هذا المسار بفعل ضعف ردة الفعل التي أعقبت التوقيع على الاتفاق الثلاثي، وغياب معارضة حقيقية، وفراغ الساحة أمام الأصوات المرتبطة بالمركبات المصلحية المراهنة على هذا التطبيع، جعلت صانع القرار المغربي يحوّل خطوة “التطبيع” من تكتيك إلى حلقة ضمن تخطيط استراتيجي.
فبالرغم من مفعول العلاج بالصدمة الذي خلفه “طوفان الأقصى”، وعودة الروح إلى الشارع، وتحرر الكثير من الأصوات، وليس كلها للأسف، للنطق بالموقف الإنساني والمبدئي تجاه ما يحصل من جرائم إسرائيلية في غزة، إلا أن خطاب هذه الأصوات يبدو في كثير من الأحيان قليل الفعالية وضعيف النفاذ، بل وتبطل الدولة مفعوله بالكامل حين تصدر مواقف وبيانات تتبنى بالكامل خطاب دعم ومساندة فلسطين، أي أنها لا تجد نفسها في نزاع أخلاقي مع مطالب الشارع وإن كانت تأتي على أفعال تناقض مطالبه.
مشكلة هذه الأصوات تكمن في اقتصارها على عناصر خطاب تمتح من قاموسي الدين والايديولوجيا، وهي منطلقات أساسية ومشروعة، لكنها تصطدم بخطاب مضاد يبدو أن أصحابه نسجوه بعناية كبيرة، لا أقول لدحض الخطابات الدينية والأيديولوجية، بل لإبطال مفعولها، لأنه يستند إلى مفهوم “المصلحة الوطنية”، فينجح بالتالي في جعل الخطابات المهيمنة في الساحة والمدافعة بوضوح عن القضية الفلسطينية، كما لو أنها “غير وطنية”، وهنا أصل الداء.
يعلّمنا صديقنا الدكتور مصطفى كرين في برنامجه المصور الذي تبثه منصات “صوت المغرب”، كيف تتأطر العلاقات الدولية بثلاثة عناصر أساسية تكاد تفسّر كل كما يجري فيها من حرب وسلم، وهي عناصر “العرق” و”الأيديولوجيا” و”الأجندة”.
وعندما نتفحص الخطاب المدافع عن القضية الفلسطينية في المغرب، نجد أنه يمتح من حقلي العرق والايديولوجيا، بينما يغفل معطى الأجندة، ليستفرد بها المعسكر المدافع عن التطبيع بمعناه الذي يفيد الانغماس التام.
صحيح أن للمغرب انتماء حضاري، وفيه شعب يحمل ثقافة وفكرا وشعوا بالانتماء… وكلها عناصر تعطي كامل الحق في توظيف عنصري الدين والايديولوجيا، وهو استثمار مشروع، بل وواجب، لأن من حق الشعوب أن تعيش كما تريد ووفقا لتمثلها الخاص لنفسها ولمحيطها، ولا عيب في ذلك.
لكن للمغرب أجندة أيضا، لابد من استحضارها وإدماجها في صياغة المقولات والسرديات التي يوظفها المدافعون عن القضية الفلسطينية.
تتمثل أجندة المغرب في الحفاظ على أمنه واستقراره وسلامة أراضيه وحسم معركة وحدته الترابية ومن ثم كسر الحصار الذي يعيشه منذ قرنين على الأقل. أجندة لا تخلو من مشروعية للتقدم في مسعى يحمله المغرب منذ القرن 19 على الأقل، للخروج من وضعية “الجزيرة” التي فرضت عليه وقصت أجنحته وحولته من امبراطورية مهابة الجانب إلى دولة تحارب منذ نصف قرن لإثبات حقها في أكثر من نصف مجالها الترابي.
وبعدما وصلت العلاقات مع الشمال الأوربي إلى مداها الأقصى ولم يعد بالإمكان أكثر مما كان من “شراكة” اقتصادية وتعاون أمني واستخباراتي، وفي ظل تعذر زحزحة الصخرة الجزائرية التي تغلق علينا الطريق نجو مجالنا الحيوي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، لدينا اليوم فوق الطاولة مشروع متكامل للخروج من الحصار عبر المنفذين الجنوبي والغربي، أي الساحل الأطلسي والساحل والصحراء الأفريقيين، والعنصر المفتاح في هذه الأجندة هو علاقات المغرب مع الولايات المتحدة الأمريكية.
هنا نصادف معضلة أساسية على المناهضين للتطبيع، مع الحفاظ على خلفياتهم الفكرية والأيديولوجية المشروعة، أن يعملوا على حلها وتقديم الأجوبة العملية عليها وتفكيك مقولات خصومها.
لا يمكن الاستمرار في مخاطبة الدولة المغربية بشأن علاقاتها مع إسرائيل من ومنطلقات أخلاقية فقط، دون استحضار أن هذه العلاقات، ترتبط أو تتفرع أو تنجم، عن العلاقات المغربية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
نعم هناك مغالطات منطقية وتدليسات يقوم بها المدافعون عن الانغماس في التطبيع، من خلال تضخيم أثر العلاقات المغربية الإسرائيلية على نظيرتها المغربية الأمريكية، لكن هذا لا يعفي المدافعين عن القضية الفلسطينية من عبء الاشتباك مع هذا المعطى وتقديم أجوبة متكاملة، تقنع الجمهور من جهة وتحرم أصدقاء إسرائيل بيننا من الاستفراد بأجندة الدولة.
لن أقوم بفتح علمي إذا قلت إن قرارات وسلوك الدول لا ترتبط بالمثل والقيم والأخلاق، بل إن عبء تصريف هذه المرجعيات الإنسانية يقع على المجتمعات والشعوب من خلال أحزابها وجمعياتها ونقاباتها… بينما تصدر خيارات الدول أولا وقبل كل شيء عن تقديرات معينة لمصالحها الحيوية.
فهل ينفصل دعم القضية الفلسطينية عن المصالح الوطني؟
أبدا، بل يمكن أن يكون التأسيس للأجندة الوطنية من داخل موقف الدفاع عن القضية الفلسطينية والتصدي لضغوط التطبيع بالانغماس، أكثر صلابة وتماسكا. فهو موقف يبقينا داخل دائرة انتمائنا الحضاري ويمنحنا قوة تأثير في مجالنا الحيوي، المغاربي والإفريقي والعربي والإسلامي، ويبقي في أيدينا أوراق تفاوض وضغط أكبر من خيار الانخراط الأعزل في حلف لا نملك جميع مفاتيحه…
دعم القضية الفلسطينية يمنحنا فرصة كبيرة لتقوية اللحمة الوطنية وتعزيز التماسك الداخلي والاحتفاظ بالقدرة على التعبئة والانخراط الشعبيين، كما يحصل منذ شهور في الشارع، وهنا ينبغي الاستثمار في الخطاب المدافع عن القضية الفلسطينية.
وإذا أردنا البحث عن “الفرص” وعرضها على صانع القرار بالضغط والترافع والإقناع، فإننا لن نحتاج بالضرورة إلى قرار من محكمة العدل الدولية، سارعت الخارجية المغربية إلى الترحيب به، باحتشام نعم، لكنها رحبت به في النهاية، بل يكفي أن نذكر بأن طوفان الأقصى منح الدولة المغربية فرصة القيام بواجبها على رأس لجنة القدس وتصريف مواقف ومشاعر شعبها ورفع رصيد مشروعيتها داخليا وحججها أمام خصومها الخارجيين.
يكفي أن نذكر أن طوفان الأقصى جاء قبيل انطلاق سنة انتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن التمترس خلف الموقف الوطني الملتحم بمواقف إنسانية هادرة عبر المعمور، يتيح إمكانات تفاوضية جديدة وفرصا لانتزاع المزيد من المكاسب في القضية الوطنية، عكس ما يبشر به عرابو التطبيع بالانغماس، من مكاسب محتملة مقابل الاستسلام الشامل.
يكفي أيضا أن نذكر صناع القرار الوطني بالوضع الجديد الذي خلّفه طوفان الأقصى في الجبهة الداخلية الإسرائيلية من تصدعات وتناقضات، وبالتالي إذا كان هناك من يزعم بأن لدينا “شعب وفي” داخل إسرائيل، فإن المنطق البراغماتي يستدعي استثمار هذا الوضع للدفاع عن المصالح الوطنية بالضغط والمناورة لا الانحناء والتزلف كما يفعل البعض.
إذا كان لابد من خطاب انتهاز الفرص، يكفي أن نبني خطابا يذكر الدولة أن معسكر حلفائنا الغربيين قد تصدع بدوره تحت ضربات التواصل الفعال للمقاومة الفلسطينية، وفقد الكثير من أوراق تفوقه المعنوي، وبات بالتالي أسهل علينا في الترويض والمطالبة بالمقابل الذي نريد في ميزان الأخذ والعطاء الذي تقوم عليه العلاقات الدولية.
صناع القرار المغربي ماضون اليوم في اختياراتهم الاستراتيجية، مدفوعين بمصالح حيوية تستجيب لأجندة وطنية، قد تخالطها بعض المصالح الفئوية والانتهازية نعم، لكنها من باب الشر الذي لابد منه من منظورهم. والقضية الفلسطينية تحتاج إلى تقعيد جديد يتجاوز ما أنتجته حقبة النكسة و6 أكتوبر والحرب الباردة والانتفاضتان الأولى والثانية… إنها تحتاج إلى خطاب يواكب التطور الحاصل على المستويات الدولية والإقليمية والوطنية، بل والثقافية والاجتماعية.