فاجعة فاس.. البحثُ عن مسؤول
فتح التحقيقات في أعقاب الكوارث والحوادث أمرٌ واجب، ولا خِلاف. هذا دورُ مؤسسات الرقابة والتحقيق وتنفيذ القانون.
غيرُ المنطقي في المغرب أن لا نسمع عن نتائج هذه التحقيقات المَنْسية، التي يهمُّ المواطنين أن تُخبرهم السلطات بشأن ما خَلُصت إليه. الأمر لا يجب أن يكون متروكاً لأمزجة المسؤولين، بل هو واجبٌ أمام الرأي العام.
جبالٌ من التحقيقات فُتحت ولم نسمع عن نتائجها. لا يمكن اعتبار الأمر طبيعيا ولا التطبيع معه. عدم الجديّة في التحقيقات والذهاب بها إلى أقصاها أسوأُ من عدم التحقيق.
حتى لو نسيَ المواطنون في زحمة انشغالاتهم وتغيّر اهتماماتهم في زمن شبكات التواصل، لا يجب أن تنسى المؤسسات. في الدول الديمقراطية يُمكن أن تنبعث قضايا من رماد السنوات، بعد أن يعتقد الناسُ أن الصفحة طُويت.
تشعر أن عبارة “فتح تحقيق” عندنا مجرّد لازمة مكرّرة على هوامش البلاغات، وبدون أي مضمون يستدعي ترقّب نتائجها. ما عادت الناس تهتمّ أو تنتظر سماع التالي. هذا أمر سيّء لجوهر فكرة المصداقية والثقة.
التحقيقات في الكوارث (المشتبه أن تكون بفعل البشر) تخدم هدفين على الأقل: أولهما تحميل المسؤولية عن الأخطاء، تجسيداً لمعنى ربط المسؤولية بالمحاسبة. وثاني الأهداف استخلاص الدروس حتى لا تتكرّر، عبر تجويد الفعل العمومي الاستباقي، وأيضا عند الاستجابة للحالات الطارئة عند وقوعها.
إعلان فتح التحقيقات على الطريقة المغربية لا يكون هدفه دوماً الوصول إلى الحقيقية، بل طمسها. يُستعمل تقنيةً لامتصاص الغضب الشعبي، وهو بحكم المسكّن عند “الصدمة الأولى”، في أفق التلاشي حين لا تعود المحاسبة مطلباً.
التحقيقات بصيغتها المغربية تُراهِن على الوقت لطيّ الملفات. تراهنُ على ذاكرةٍ قصيرة وانشغال بـ”الطوندونس” للمرور إلى التالي دون تصفية تركة الفساد “المؤْذِن بالخراب”.
وقعت في فاس عمارتان فوق الرؤوس. 22 قتيلا، بينهم أطفال، ليس أمراً هيّناً. وكالعادة سمعنا عن تحقيق. من الآن أجازف بأن نتائج التحقيق لن يسمعَ عنها أحدٌ، أو أنّ نتائجها ستقتصر على فاعلين هامشيين.
الإخبار بنتائج التحقيقات لا يقلّ أهمية عن التحقيق ذاته. على الأقل يخدم غرضين: درسٌ للمسؤولين بشأن ما سيترتّب عن الإخلال بالواجبات. وثانيهما وضع الرأي العام في قلب الرقابة على تدبير الشأن العام.
هذا يُسهم في تعزيز الثقة، ويُمكِّن للشفافية. غير ذلك، الإخفاء أو التهاون في التحقيق، وفي الإخبار بالنتائج، يخدم استمرار الفوضى وتفويت الفرصة على تحقيق العدالة للضحايا.
من سقوط مئذنة مسجد باب البرادعيين في مكناس، إلى انقلاب حافلة تيزي تيشكا، ومأساة حادثة طانطان، وانقلاب حافلة في دمنات، وفيضانات طاطا، وغيرها الكثير.. مئات الضحايا الذين كانوا يستحقون تحقيقات تؤدي إلى نتائج حقيقية، تحقّق أولا المساءلة ضد المخالفين، بدون استثناء، عبر العدالة، وتمنع تكرار المأساة ثانياً.
في أذهان المواطنين، “فتح تحقيق” مقابلٌ، في كثير من المرّات، لإقبار الحقائق. التحقيقات قد تكون مقبرة. في الحدّ الأدنى تُفهم كطقسٍ بيروقراطي فارغٍ من أي معنى لسلطة الدولة في تطبيق القانون رعايةً للمصلحة العامة.
ما جرى في فاس خلطةٌ بشعة ومميتة: سلطات شريكة بفسادِ مسؤولين مستعدّين لإغماض العين عن التجاوزات، ومنتخبون وسياسيون يُسهِّلون “الموت” مقابل عائدٍ انتخابي، ومواطنون منسحقون في آلة الفساد على استعداد لفعل أي شي لتمكينهم من تجاوز للقانون، بما يُعرّضهم للخطر في نهاية دورة العبث بالقانون.
بمعنى آخر، المباني التي تنبتُ عشوائياً دون احترام لمعايير السلامة توفّر عناصر الإدانة لسلطة لا تزال تنخرها الرشوة، وطبقة سياسية انتهازية تؤسّس لـ”خزّانات انتخابية” تسكنها الهشاشة، ومواطنٌ “عدو لنفسه”.
هذه الثلاثية إذا تواطأت تَوَقَّع الكارثة الماحقة المُهْلِكة للأرواح.
هذا النوع من الكوارث يثبت أننا لا نعاني غياب القانون المسطور، بل تكريسَ قانون موازٍ يمارسُ على أرض الواقع ويُرَسَّم بسلوكات أطراف العلاقة الثلاث.
أهمية التحقيقات أن تُحَقّق في المحصّلة الرّدع العام، لإلزام المسؤولين بعدم التساهل في تطبيق القانون أساساً. وعدم إعلان نتائج التحقيقات وتحميل المسؤوليات يوفّر بيئة للتجرؤ على انتهاك القوانين، أو التساهل في تطبيقها. والنتيجة: إعادة إنتاج خرق القانون في لا متناهية قاتلة.
الفساد في مجال البناء يراهُ الجميع، إلا السلطة. “لا تراه” لأن بعض عناصرها شريكةٌ فيه. وسقوط العمارات ليس حدثاً يمكن اعتباره عادياً و”قضاءً وقدر”، بل هندسةٌ للموت. هندسةٌ واعية، لكنها عمياء عن رؤية الدمار في نهاية المسار.
زرتُ فاس هذا الصيف. المدينة الجديدة بلا روح. خَرِبة، ومنهكة، ولا تشبه فاس. فقط المدينة القديمة تنقذ ماء وجه المدينة. أجمل ما في فاس ماضيها.
قصارى القول
هندسةُ السلطة في المغرب تُفَوِّت تَحَمَّل المسؤولية. المُعَيَّنون ورجال السلطة يظهر في بعض المرّات أنهم فوق المحاسبة. صلاحياتهم الواسعة لا تُقابل بآليات رقابة متشددة بنفس حجم نفوذهم. هم آخر من يُحاسبُ عند وقوع الكوارث.
لا يُعاقبون إلا إذا لم يعد بدٌّ من المحاسبة، ولا تُربط دوماً محاسبتهم بأخطاء واضحة ومعلومة، بما يفوّت فرصة الشفافية وإشاعة الثقة، وقد تكون العقوبة مجرّد عملية “إعادة تدوير” في المناصب والمسؤوليات.
مغرب المستقبل يُبنى بالوضوح في تحديد المسؤوليات بدقّة، وفي ترتيب الجزاءات عند وقوع الأخطاء. قيمة الدول في تكريس المحاسبة. عمارتا فاس توجدان في كل مدن المغرب. بُنيت بتواطؤ “ثلاثي الموت”، ولعدم تكرار المأساة وجبت معاقبة كلّ المخالفين. تنفيذ القانون في مثل هذه الكوارث المميتة روح الدولة. فـ”من أَمِن العقوبة ارتكب جريمة”.