غير آبه بالحرب والموت.. هذه قصة طبيب مغربي نذر حياته للعذابات الإنسانية
يهرب الناس عادة من الحروب ويبتعدون عن لظاها قدرما استطاعوا، وحينما يعلقون داخل رحاها الجائرة يبحثون باستماتة عن سبل النجاة الممكنة، لكن الطبيب المغربي زهير لهنا، يهرع إلى الحرب مفتوح الذراعين على جميع الاحتمالات الممكنة، ضميره الإنساني قبل المهني يقوده إلى البؤر الساخنة “عساه يرمم بعضا من جراح أهلها الغائرة”.
وبعد أن قضى الطبيب المغربي زهير لهنا شهرا بكامله متطوعا للمرة الخامسة في غزة بالمستشفى الأوروبي، خرج من القطاع المحاصر لانتهاء مدة تطوعه، ويقول إنه عازم على العودة مرة أخرى.
يقول “أعلم جيدا أن لا كاشف للضر عن أهل غزة إلا الله.. وأعلم أيضا أن العالم ، لاسيما من يظن أنه متحضر، لا يرى إلا بعين واحدة و لا يفكر إلا بحسب معايير مترسخة في عقله الباطني. لكننا مؤمورون كذلك باتخاذ الأسباب، كل الأسباب التي قد تؤدي إلى وقف العدوان على شعب أعزل و محاصر..”
الطبيب المغربي زهير لهنا
قصة الذهاب
يروي زهير لهنا في حديثه مع “صوت المغرب” تفاصيل قصة محفوفة بالمخاطر قضاها في غزة، يقول الطبيب إنه ومنذ الأيام الأولى التي تلت السابع من أكتوبر، كان الحدس يخبره أن مأساة إنسانية عظمى ستلم بأهل غزة ولذلك شرع يبحث وقتها عن سبل الذهاب إلى هناك.
وقال في هذا الصدد “حينما علمت أن الولايات المتحدة الأمريكية أرسلت أسطولا محملا بآلات الحرب، أحسست أن أمرا جللا على وشك الحدوث، فقررت البحث عن سبل للوصول إلى هناك بشتى الوسائل الممكنة”.
وتوجت مساعي الطبيب المغربي بما كان يتمنى واستطاع عن طريق جمعية أمريكية مسلمة أن يدخل في أول وفد من نوعه، رفقة طاقم طبي إلى القطاع المحاصر نهاية شهر دجنبر المنصرم.
يقول زهير لهنا إن “عمل هذا الوفد كان قد حدد في 15 يوما” إلا أنه ظل بالقطاع شهرا كاملا في المستشفى الأوروبي، ويقول إنه فعل ذلك حتى يتسنى له المساعدة أطول وقت ممكن.
شاهد على الفواجع
العمل في المستشفى الأوروبي لم يكن سهلا بالنسبة للطبيب المغربي، إذ أن أيادي الاحتلال الظالمة لا تفرق بين أهدافها “كل الأهداف عندها سواء” يقول الطبيب.
ويحكي زهير لهنا بغير قليل من ألم عن هذه التجربة المريرة واصفا حال القطاع قائلا إن “ما يقع من فتك بحق مليوني نسمة في مربع صغير ودون أن يترك لهم أدنى مقومات الحياة أو وسيلة للنجاة هو قسوة لم يشهد العالم لها مثيلا، ما يحدث بهذه الأرض وتحت أنظار العالم سيبقى وصمة عار على جبين العالم إلى الأبد”.
وقال الطبيب إنه كان يقطن بالمستشفى الذي “أصبح في أيام إلى قرية صارت قبلة للجرحى والمصابين وعائلاتهم وحتى المدنيين العزل” يضيف “أن المكان كان مكتظا عن آخره حتى الدرج والساحات والتي اكتظ فيها الناس في ما يشبه خياما تستر ولا تؤوي”.
ولأنه طبيب نساء وتوليد يقول إنه كان يتوجه إلى مستشفى الأم والطفل بمدينة رفح، يقول إنه “في مستشفى الأم والطفل كان الضغط كبيرا، بعدما أصبح قبلة لكل النساء الحوامل في القطاع، اللواتي كانت معاناتهن كبيرة جراء النقص في التغذية وعدم تتبع الحمل بشكل شبه كلي، إضافة إلى اضطرار العديد منهن لمغادرة المستشفى بعد 3 أو 4 ساعات من وضعهن حتى يفسحن المجال لغيرهن جراء ضعف الطاقة الاستيعابية للمستشفى”.
ذاكرة محملة بالمآسي
غادر الطبيب المغربي زهير لهنا، القطاع المحاصر حينما أنهى مدة تطوعه التي لا ينبغي أن تتجاوز شهرا، لكن غزة “لا تغادر ذاكرته أبدا ولن تفعل” هكذا يقول.
وحينما سألناه عن أكثر ما يعلق بذاكرته من قصص الحرب التي عاشها هناك أجاب قائلا إنه “لا تفاضل في قصص الموت الأليمة في الحروب، لكن أكثر ما أثر به قصة امرأة حامل قدمت إلى المستشفى في حالة ولادة متأخرة، وبعدما تمكن الأطباء من إجراء عملية قيصرية وإنقاذ الجنين، حدث تمزق في الرحم والمثانة”.
وبالرغم “من تمكن الأطباء من إصلاح الأمر إلا أنها أصيبت بتعفن جعل وضعها الصحي صعبا، ودفع بالأطباء إلى اتخاذ قرار تحويلها إلى المستشفى الأوروبي، لكن ما إن هم الفريق الطبي بإخراجها كان للقدر رأي آخر، إذ لم لم تفلح محاولات إنقاذها لتفارق الحياة تاركة وراءها خمسة أطفال يتامى ورضيعا فتح أعينه على اليتم والحرب وزوجا مكلوما”.
العطاء.. “سر الطب الأعظم”
وليست هذه المرة الأولى التي يتطوع بها الطبيب المغربي بالقطاع، بل سبق أن فعل ذلك أيام الحرب والسلم على حد سواء، فهو الذي اختار لنفسه درب “مساعدة المحتاجين أينما كانوا”، ويشتغل في الطب الإنساني منذ ما يزيد عن ربع قرن من الزمن.
ويرى أن مهنة الطب تفرض على مزاوليها العطاء بلا حدود يقول إن “العطاء هو في الحقيقة جوهر كل هذه المهنة وسرها الأكبر” ولذلك نذر حياته في سبيل هذا العطاء.
واشتغل الطبيب لهنا في سوريا حينما كانت الحرب محتدمة بين قوات النظام والمعارضة، وفي قطاع غزة أثناء الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين عام 2014، وإلى أفغانستان خلال الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية على تنظيم القاعدة عام 2001، وساعد مرضى في أكثر من أربع دول إفريقية، منها دول تعيش حروبا أهلية.
وقبل أن يتوجه الطبيب زهير لهنا إلى التطوع بالخارج، كانت لقرى المغرب النائية والمناطق المهمشة نصيب من هذا العطاء، إذ تطوع في البوادي البعيدة والجبال القصية، إذ قام بتدريب أكثر من 180 مولدة في المغرب في القرى النائية، ومكنهن من التدخل بنجاعة لإنقاذ النساء والرضع وغيرها العديد من المبادرات التي لا عد لها.
يقول لا بأس في مساعدة الضعفاء في القرى النائية بتزويدهم بالمؤونة والألبسة والأغطية، لكن هذا النوع من المساعدة لا يترك أثراً دائماً، بيد أن مساعدتهم بالمعرفة الطبية للتمكن من إسعاف المرضى قبل نقلهم إلى مستشفيات، تبعد عن مكان سكناهم أحياناً بمئات الكيلومترات، تترك بصمة ويتوارثها الأجيال فيما بينهم.
الطبيب المغربي زهير لهنا
وبالرغم من أن الطبيب المغربي قد غادر القطاع حينما انتهت مدة تطوعه المحددة من طرف الجمعية السالفة الذكر، إلا أنه يسعى الآن إلى العودة إلى هناك مرة أخرى.
يحكي عن لحظات الوداع الأخيرة قائلا إنه “عندما تقرر رحيلي ذهبت إلى زملائي بالمشفى أودعهم.. لكن كلامهم كان له وقع موجع على قلبي لقد قالوا أ تذهب وتتركنا؟”. ولذلك يقول الطبيب إنه عازم على الذهاب مرة أخرى “مادام أهل القطاع في حاجة ماسة إلى المساعدة.