story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غضبة العلماء

ص ص

فجأة وبدون سابق إنذار تحوّلت المشاهد “الرومانسية” لجلسات اللجنة المكلفة بتحضير توصيات تعديل مدونة الأسرة، إلى حرب داحس والغبراء بين الإسلاميين والحداثيين. لكن ماذا وقع حتى انفلت النقاش من عقاله وبرز القوم لبعضهم البعض؟
لا شيء مما وقع طيلة الشهور الخمسة الماضية، أي منذ صدور الأمر الملكي لرئيس الحكومة بفتح النقاش حول تعديل المدونة، يبرر ما نراه اليوم من كر وفر سياسيين تم تغييبهم منذ البداية من هذا النقاش، حين تشكلت نواة اللجنة المكلفة بإعداد توصيات التعديل من مؤسسات قضائية ودون أية تمثيلية سياسية.
ما حصل هو انفجار لغم داخل بيت الدولة، ومن أسباب هذا الانفجار ذلك الارتباك الذي طبع عمل اللجنة المكلفة بتحضير التوصيات التي سترفع إلى الملك، والذي جعلها تتحول من لجنة تقنية مكونة من الأطراف القضائية الثلاثة: وزارة العدل ومجلس السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، إلى لجنة أوسع ضمت مؤسسات أخرى، أهمها مجلسان دستوريان حيويان، هما: المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الانسان.
هذا الأخيران اللذان يعتبر كل منهما معنيا بملف المدونة، هما اللذان سيصبحان بمثابة الكاثود والأنود بالنسبة للجنة، لما يحملانه من مرجعيات متناقضة لا تجتمع عمليا إلى في الملك.
يتعلّق الأمر بتناقض كبير سبق لي شخصيا أن كشفت أحد تجلياته قبل أكثر من عشر سنوات، حين حققت سبق الكشف عن فتاوى المجلس العلمي الأعلى التي صدرت بطلب من المؤسسات الوطنية المعنية بالتفاعل مع توصيات وضغوط المنتظم الدولي الحقوقي بشأن حرية المعتقد، فكان أن أصر علماء الدولة على الموقف التقليدي الذي ينظر إلى الأمر بمنظار “الردة” التي تعرفون حكمها الشرعي…
ما جرى اليوم هو أن مذكرة المجلس الوطني لحقوق الانسان المقدمة للجنة تعديل المدونة، تحولت إلى لغم، بل إلى “راكد” في رحم اللجنة، انتهت تفاعلاته بتقاطب مفاجئ في الساحة السياسية، لكن أيضا بحادثة دالة وقعت يوم 20 يناير الماضي، وأدخلت الملف مأزقا غير متوقع، حين انسحب ممثل المجلس العلمي الأعلى من الجمع العام الاستثنائي للمجلس الوطني لحقوق الانسان.
يتطلب استيعاب ما يجري حاليا من لغط ومناوشات كلامية الكثير من العناء، لغياب المعلومات والمعطيات الكافية، بفعل تكتم وتحفظ الفاعلين، ولاستعمال أساليب “ويل للمصلين” في الخطابات التي يستعملها الناطقون باسم هذا المعسكر أو ذاك.
ومع كل الحذر اللازم لتجنب السقوط في اصطفاف غير مقصود أو غير واع مع هذا الطرف أو ذاك، دعونا نسجل ملاحظات جوهرية:
أولا، هناك اختلالات منهجية عديدة في سلوك المجلس الوطني لحقوق الانسان، أولها جمعه بين صفتي العضو في اللجنة والطرف الذي يتقدم أمامها بمذكرة اقتراحية. صحيح أن المجلس كان قد فتح الملف في إطار إحالة ذاتية، واجتمع رسميا لتحضير مذكرته في يونيو 2023، أي قبل تشكيل اللجنة الملكية، لكن وبعد تشكيل هذه اللجنة وانضمام المجلس إليها، كان أفضل لو تجنب المجلس طرح مذكرته، أمام اللجنة على الخصوص، تفاديا لشبهة تضارب المواقف\المصالح،
ثانيا، من المستغرب تقديم وثيقة كمؤسسة وطنية أمام لجنة رسمية، دون احترام الحد الأدنى من الشفافية والتواصل مع المجتمع بنشر تلك الوثيقة. هل يعقل أن تكون وثيقة من هذا النوع، سواء كانت مسودة أو أرضية أو مشروعا أو وثيقة نهائية، سرية، بينما يتعلق الأمر بآلية لتأطير وتنشيط النقاش العمومي الذي يرجي منه إفراز توافق معين،
ثالثا، تبيّن الآن، وبعد صدور روايات مجتزأة لكنها متقاطعة، أن المجلس قدم للجنة وثيقة لم يتم اعتمادها أو المصادقة عليها بعد من طرف هيئاته الداخلية المختصة، وتحديدا الجمعية العامة، وهذا يطرح سؤالا استنكاريا كبيرا،
رابعا، هناك سعي محموم لتوظيف الرأي العام وتوجيهه بخلفيات سياسوية وايديويوجية غير صحية، عبر تقديم أنصاف المعلومات ونهج أسلوب “ويل للمصلين”. والمقصود هنا عدم توضيح أي من الأطراف المتحاورة أن الاجتماع الذي انعقد يوم 20 دجنبر، وهو الذي دام “ربع ساعة” أي مدة قصيرة، وكان مخصصا للإخبار بما سيتم تقديمه أمام اللجنة، لكن كان هناك جمع عام استثنائي يوم 20 يناير، دام قر ابة خمس ساعات، وشهد نقاشات طويلة، وهو ما انتهى بالمصادقة على نسخة نهائية من المذكرة، تتضمن تعديلات مقارنة بتلك التي قدمت للجنة ويتم تداولها حاليا.
ما حصل هو أن “الراكد” تحرك كثيرا في رحم اللجنة، وشدة التوتر ارتفعت بين قطبيها، مجلس العلماء ومجلس الحقوقيين، وتم تصريف هذا التوتر بالاستعانة بامتداداتهما في المشهد السياسي، قبل أن ينفلت الأمر خلال اجتماع 20 يناير، عندما قام عضو المجلس الوطني لحقوق الانسان، الممثل للمجلس الأعلى للعلماء، إدريس خليفة، بالانسحاب من الاجتماع بعد تلاوته آيات قرآنية.
انسحاب العميد السابق لكلية أصول الدين بتطوان، من الجمعية العامة للمجلس الوطني لحقوق الانسان، تزامن مع اشتداد المواجهة بين الأطراف السياسية المنخرطة في النقاش، وهو ما جعل قطبين مؤسساتيين للدولة ولجنتها المكلفة بتعديل المدونة، على طرفي نقيض.
يبدو أن مبادرة رسمية صدرت لرأب الصدع، عندما قامت اللجنة بزيارة لمقر المجلس العلمي الأعلى يوم 28 فبراير الماضي، وخرج بعدها الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، محمد عبد النبوي، ليدلي بتصريحات لوكالة المغرب العربي للأنباء، مقدما نفسه لأول مرة بصفة “منسق” اللجنة، وهو ما يحمل على الاعتقاد بأن الخطوة جادت ل”تطييب” خاطر مجلس العلماء وطمأنته بشأن حياد اللجنة من خلال صفة منسقها “الجديد”.
لا شك أن الأزمة ستجد طريقها إلى الحل والتجاوز، لكن ذلك لا ينبغي إن يحملنا على العودة إلى سباتنا، بل لابد لنا من طرح الأسئلة اللازمة والبحث عن أجوبتها، حول اختياراتنا الدستورية والسياسية، وحول وصفتنا التي توفّق بين مكونات ثقافتنا المركبة، لكن بعيدا عن أسلوب “تخليطة العطار”.