story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غزة.. شخصية العام 2024

ص ص

إذا كان لابد من النسج على منوال التقليد السنوي لاختيار شخصية السنة في هذا اليوم الأخير من العام 2024، فلن يكون سوى غزة.. الأرض التي تمشي فوق الماء والدم.

هذه البقعة الصغيرة من أرض فلسطين التاريخية أعادت صياغة عالمنا الحاضر والمستقبلي هذه السنة.

هي ليست مدينة أو “قطاع”، بل كائن حيّ ينبض في فراغ هذا العالم القاسي المتناسي.

هي شخصية السنة لأنها ليست خريطة تحدّها حدود وهمية أو حقيقية، بل فكرة تتحدى الزمان والمكان وجبن وخسة الإنسان.

هي شخصية السنة لأنها حين تهبط عليها القذائف والنيران، لا تموت، ولا تهرب، بل تتحول إلى رماد ينهض منه أطفال الفينيق، يحملون أحلاما من نور وسط العتمة.

هي شخصية السنة بدون منازع لأنها ليست مكانا يمكن اختزاله في تقرير إخباري أو دراسة جامعية أو حكاية ترويها الجدّات للصبيان.

هي فكرة ترفض الموت، وحين ينهكها الحصار، تستمدّ قوتها من ألمها، لتصبح أسطورة تتجدد كلما حاول العالم أن ينساها.

هي شخصية العام 2024، لأنها كانت قلب العالم الذي ينزف ويقاتل ويقاوم وحده وينبض بدون أكسجين.

فوق تراب غزة قُتل خلال هذا العام فقط، ما يزيد على 30 ألف إنسان، جلّهم أطفال ونساء ومدنيون عزّل لم يعرفوا من العالم سوى ضيق الأزقة وظلال الحصار.

هؤلاء الذين سقوا تراب غزة بدمائهم هذه السنة ليسوا مجرد أرقام تعرض على شاشات الأخبار، بل أرواح بريئة فارقت الحياة في صمت رهيب.

هي شخصية السنة لأن كل شهيد من هؤلاء كان يمكن أن يصبح شاعرا، أو طبيبا، أو معلما، لكنهم ذهبوا بلا وداع، تاركين وراءهم ركاما من البيوت وذكريات تغرق في الغبار.
هي شخصية السنة رغم الدمار، لأن الدمار في غزة ليس مجرد تهشيم للحجارة، بل إبادة للحياة واقتلاع للإنسان.

عشرات المستشفيات خرجت عن الخدمة، والسبل تقطعت بمليونين ونصف مليون إنسان تحولوا إلى لاجئين داخل وطنهم، بين موت متربص فوقهم، ونقص مدقعٍ في أساسيات العيش تحتهم.

هي شخصية العام لآنها مدينة شُلت فيها الخدمات الأساسية، وأصبح فيها الوقود حلما، والماء عملة نادرة، والكهرباء مجرد ذكرى.

هي شخصية السنة لأنها ورغم كل ذلك، في وسط هذا الدمار، واصل أهلها الحياة، يصنعون الضوء من الظلام، وينحتون المقاومة من العدم.

هي شخصية السنة لأنها وبقدر حديث العالم عنها، لكنه لا يفعل شيئا من أجلها. الأمم المتحدة تعقد المؤتمرات، وتصدر البيانات، ثم تكتفي بالمطالبة.

والمنظمات الدولية تراقب بصمت، والدول الكبرى تدير ظهرها. أما العرب، آه يا عرب، فقد اجتهدوا في تقديم المبادرات والمساومات، تاركين غزة تتأرجح بين الدعم الخجول وخيانة روابط الدم والحضارة والتاريخ.

هي شخصية السنة لأنها تحولت إلى أيقونة للصراع الإقليمي. والشرارة التي تمتد لتشعل جبهات الحرب في لبنان وسوريا واليمن.

هي شخصية السنة لأنها لم تكن السبب في كل ذلك، بل المرآة التي تعكس عجز المنطقة بأكملها عن التصدي للظلم وكفكفة دموع الأطفال.

هي شخصية السنة رغم أنها تشبه محمود درويش حين قال: “لا أريد أن أكون رمزا”..

غزة لا تسعى لأن تكون رمزا للمعاناة، لكنها تُجبر العالم على مواجهة الحقيقة: هناك شعب يُقتل تحت سمعه وبصره، ولا أحد يحرك ساكنا.

غزة شخصية السنة لأنها لم تخضع. أطفالها يذهبون إلى المدارس رغم أن مدارسهم دُمّرت، يكتبون أحلامهم على جدران بقيت واقفة كشاهد على الخراب، يزرعون زهورا في شرفات بيوتهم المحطمة، ويرددون أناشيد الحرية وكأنهم يسخرون من آلة الحرب الإسرائيلية.

في عام 2024، كانت غزة شخصية العام بلا منازع. ليست لأنها أثارت شفقة العالم، بل لأنها أظهرت ما تبقى من إنسانيتنا، وكانت المرأة الشامخة التي ترفض قيود الظلم وتكتب تاريخها بالدمع والدم.

غزة شخصية السنة لأنها الفكرة التي تتجاوز الحصار، والشهادة الحية على فشل الإنسانية في نصرة العدالة، وسؤال مفتوح يوجهه العالم لنفسه: هل ما زالت هناك كرامة؟ وهل نحن مستعدون للتضحية من أجل حماية فكرة العدالة؟

غزة، شخصية السنة، لا تحتاج إلى إجابتنا، فهي تصوغ مصيرها بنفسها، لكنها تمنحنا الفرصة لننظر في المرآة ونرى انعكاس عجزنا.

غزة تظل حية لأنها ترفض أن تموت،

ونحن نستحق أن نخجل لأننا لا نملك ذرة من شجاعتها.