غزة تغيّر العالم
لا يمكن لإنسان سوي، أو صاحب حس سليم، ألا يكون قد شعر خلال الأيام الثلاثة الماضية، بالعالم وقد تغير من حوله، والذي غير حالا بحال، هو تلك الرقعة التي اجتمع لها جل ما في العالم من ظلم وقسوة، وأفرغت فوقها أطنان من الموت والدمار.
غزة تغير العالم، نعم دون مبالغة، غزة تحقق ما لم تحققه أي من أحداث العالم المعاصر، من حروب عالمية، باردة وساخنة، وسقوط لجدار برلين وانهيار للاتحاد السوفياتي وغزو أمريكي للعراق وأفغانستان، وغزو روسي لأوكرانيا…
ما حققته غزة ولم تحققه أي من تلك الاحداث، هو إسقاط الأقنعة. لقد ظهر القوم سافرين، مفضوحين، عراة مكشوفين. سقطت أقنعة الشرق والغرب، أقنعة الأعداء والأحباب.
بعد شهر ونصف من توجيه أقوى وأخطر ما أنتجه الفص الشرير من عقل الإنسان نحو صدر غزة العاري إلا من إيمان بقضية، ها هي ذي قوات الق.س.ام تتجول بأسلحتها في قلب غزة المدمرة، تحمل أسرى العدو فوق بساط من شهامة، بعدما أخرجتهم من تحت أقدام جيش الدفاع الجبان، وفوق هذا وذاك، تحفها جموع فلسطينيي القطاع الشجعان، يهتفون لها ويحيون صمودها، مسترخصين دماء ذويهم وفلذات أكبادهم .. من أجل القضية.
مشهد يجدر بكل من يحتفظ ببقايا إنسانية في جيناته، الجلوس أمامه تواضعا، والتعلم منه، والاعتبار منه. غزة لا تحتاج إلينا، قلتها سابقا وسأقولها مرارا: نحن من يحتاج إلى غزة، نحن من يستنجد بغزة، نحن من يطلب الدعم والمدد من غزة
قبل سابع أكتوبر كنا، شعوبا ودولا، أفراد وجامعات، في عداد الأموات. أغلبنا رفع سبابة التشهد واسترخى مسلما أمره لقدر الهزيمة دون معركة، حتى جاءت غزة مرة اخرى، كما جاءت مرات أخر، لتهمس في آذاننا كما يهمس المقاتل الصنديد في أذن المركافا بذوي القنبلة: على هذه الأرض ما يستحق الموت من أجله: أرض وعرض وكرامة.
هل يدرك المرجفون من بيننا أن صورة واحدة لأسيرة إسرائيلية تغادر غزة بحسرة من كان في منتجع ترفيهي، تهدم صروحا بنتها آلاف الملايير من الدولارات، وأطنان من أفلام هوليود، وملايين الأيام من الدعاية الإعلامية المضللة؟
هل ينظر المرجفون إلى هذا المشهد الذي تتقابل فيه صورة الأسير الفلسطيني المعذب والمقهور، مع صورة الأسير الاسرائيلي الذي يكاد يقول لحكامه “لا داعي للتدخل أنا بخير”؟
هل يدرك المرجفون معنى أن يخرج جون بولتون، مستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ليقول إن الهدنة انتصار لح.م.اس وهزيمة مذلة لإسرائيل ؟
هل يفهمون معنى الرسالة التي تكتبها تضحيات الفلسطينيين اليوم؟
هل اكتملت صورة الكيان المتوحش الذي قتّل مواطنيه ليبرر تقتيل أطفال غزة وقتل معهم بعضا من مواطنيه الأسرى بينما أخّر تحرير الآخرين؟
“لا يا سادة”، تقول غزة لمن يعتبر. الإنسانية لم تصبح سلعة يحتكرها الغرب. لا مجال للمركزية الغربية بعد سابع أكتوبر، لا دروس لأمريكا ولا لأوروبا تقدمها للعالم بعد اليوم.
ما كان يصنع النفوذ الغربي في السابق هو التفوق الأخلاقي، هو فلسفة الأنوار، هو وثائق الماغنا كارتا، وإعلانات الثورات الفرنسية والبريطانية والأمريكية.
لقد استنفذ الغرب دروسه، وأكمل التاريخ دورته، وما اعتبره بعض مفكريه نهاية له ليس سوى بداية جديدة، بداية أعلنتها غزة التي تغير العالم.