غزة التي كشفت إبادتها وجوهنا في مرآة العاجزين

أي عالم هذا الذي يباد فيه حوالي مليوني ونصف المليون كائن بشري على مرأى ومسمع الجميع، ومن خلال البث الحي لمشاهد التقتيل والتدمير والتجويع المباشرة؟ أي بشر نحن الذين نطبع مع هذه المشاهد التي ما كنا لنتحمل رعبها ورهبتها، ونحن نعتقد جازمين أنها مجرد لقطات عنيفة في فيلم سينمائي، أو مسلسل أمريكي، أو قصة من قصص الخيال الإجرامي؟ هل بقي في هذا العالم من معنى للقيم الإنسانية النبيلة؟ ولما راكمته البشرية من منظومة حقوقية كونية، مقصدها الأول الحق في الحياة، لا أي حياة، بل الحياة المقترنة بالكرامة؟
والحال أننا نتابع متابعة حية لمشاهد أطفال ونساء وشيوخ وكهول يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة فقط، ومن دون أي قيد أو شرط لاقتران هذه الحياة بالكرامة، التي يضمنها مسكن بسيط، ونوم هادئ في خيمة مهترئة رديئة، مع كسرة خبز جافة، وشربة ماء ولو ملوثة، من دون تهديد بصواريخ الموت أو بإنذارات النزوح التي يطلقها جيش الإجرام الصهيوني في كل وقت ومكان بغزة، التي لم تعد رمز العزة، بل رمز تبلد حسنا الإنساني، وعجزنا الأخلاقي.
أعرف أن الذين يتربصون بمفهوم القيم الكونية الذي تراكم عبر نضالات فكرية وحقوقية ونقابية وسياسية، وبفضل تضحيات ودماء وشهداء، هذه هي فرصتهم لتصفية الحساب معه وإعلان كفرهم به، وهم الذين لم يؤمنوا به قط، وممارسة هوايتهم المفضلة في الخلط بين الأوراق. لكننا لن نسقط في هذا الفخ الذي يراد لنا الوقوع فيه، لأن هذه القيم بالضبط هي التي ما تباد اليوم في غزة، وكل مقاومة للجنوسايد هناك هي دفاع عن هذه القيم بالذات، ودفاع عن كل ما هو إنساني ونبيل وخير في هذا العالم ضد كل ما هو شرير وقبيح يتجسد في معتقدات وممارسات الكيان الصهيوني الإجرامي، وحاضنته الغربية الرسمية.
أجل، فما يجري في غزة، لن يعمي أعيننا من التمييز بين القوى الرسمية الغربية، التي هي في معظمها متورطة في جرائم الإبادة، في الماضي الحديث، وفي الحاضر القائم بغزة، وبين القوى الشعبية، التي تدين وتستنكر، مثلنا تماما، ما يجري بفلسطين المغتصبة. أما بالنسبة للكيان الصهيوني، فسيلاحظ القارئ توظيفنا لمفهومين اثنين بخصوصه، أولهما يتعلق ب”معتقداته” وثانيهما يرتبط ب”ممارساته”، حتى نرفع أي لبس بخصوص ما يقترفه من إبادة عن سبق نية ووعي وإصرار، وسدا لأي محاولة تدليسية يقوم بها الكيان، لتبرير انتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطيني، بادعاء أنها مجرد “أضرار جانبية” غير مقصودة.
إن الإبادة عقيدة الكيان الغاصب، التي لم يعد يخفيها، فبعد سبعين سنة من التظليل على جرائم التهجير والتطهير العرقي، بشعارات كاذبة وزائفة، أصبح قادة الكيان لا يترددون في الإعلان الرسمي على اقترافهم لجرائم الإبادة، فهذا رئيس وزراء الكيان يعلن عن ذلك تحت مسمى “تنفيذ خطة ترامب”، وهذين شريكيه في الإئتلاف الحكومي الإرهابي، “سموتريتش” و”بن غفير” يفتخران بمشاهد التدمير والتقتيل والتجويع في غزة باعتبارها انتصارا وإنجازا صهيونيا “تاريخيا”، وينظرون إلى كل فجوة، ولو كاذبة، لإدخال حبات قمح أو قنية ماء، للقطاع المكلوم، انهزاما واستسلاما.
هذه المواقف المعلنة وغيرها، والتي تعززها الممارسات على الأرض، قتلا وتجويعا وتدميرا لكل بنيات العيش والحياة في غزة، ينبغي توثيقها، والعمل على متابعة مجرمي الحرب الصهاينة في كل وقت وحين، والنضال من أجل محاكم شعبية أو رسمية، تمثل ضمير الإنسانية، تدين عساكر وقادة الكيان الإبادي وداعميه من الغرب. وإذا كان لكل ليل من آخر، فهذه الحرب العدوانية بغزة، لابد أن تصل إلى منتهاها يوما ما، وعوض أن يخرج الشعبويون إلى الشوارع والساحات رقصا وفرحا بما قد يتوهمونه “انتصارا” وغير ذلك من المسميات التي لا معنى لها، عليهم أن يتركوا الفرح لأطفال غزة إذا قدر لهم أن يتنفسوا الصعداء من هذه الإبادة الباطشة، وحق لهم لذلك، بينما لا يحق لنا الرقص على خراب العمران الغزي، وأشلاء جثث أبناء غزة، ودمائهم وتضحياتهم الجسيمة وبطونهم الجائعة.
إن قضية غزة، وقضية فلسطين، قضيتنا الوطنية، والقضايا الوطنية لم تكن يوما موضوعا للمزايدات التافهة بين التيارات المختلفة، ولا بين الشعوب وأنظمتها المطبعة، ولا بين أنظمة تسم نفسها ب”الممانعة” وأخرى ب”المعتدلة”، فتلك وغيرها ألغام يؤججها الكيان الصهيوني، ووسائله الاستخباراتية والدعائية من أجل خلق معارك للإلهاء، مستغلا رعونة الأنظمة والتيارات الشعبوية ووقاحة الذين لم فقددوا حسهم الإنساني، ولا يترددون في تبرير جرائم الكيان الإجرامي، الذي لا يميز فينا، بالمناسبة، بين “ممانع” و”معتدل”، بل هو يفضل حماقات “الممانعين” التي قدمت له سلسلة من الهدايا التاريخية منذ نكبة 1948 التي لم يكن يحلم بتحقيقها حتى في الأحلام.
يحرص الكيان الإجرامي على بث سموم الاستقطاب والاحتراب بين الأنظمة والتيارات الحزبية في العالم العربي، بين من يدين المقاومة الحمساوية ومن ينتصر لها، والحال، أن الحق في المقاومة الفلسطينية للاحتلال الاستيطاني العنصري الصهيوني، أيا كانت خلفيتها الإيديولوجية، ليست موضوع جدل أو مناقشة، وهو حق تكفله كل التشريعات الإنسانية والقوانين الدولية. لكن تفعيل هذا الحق، وظروفه وشروطه، هي تقدير سياسي خالص، وكل تقدير من هذا القبيل قابل للنظر والمساءلة والمراجعة، قبليا وبعديا، ولا يملك أي كان الحظر على أي مناقشة لهذا التقدير السياسي، وهذا القرار السياسي، إذ لا قداسة في السياسة، لأي قرار أو قائد.
وإذا عدنا لتاريخ المقاومة الفلسطينية، فسنجد أن اقوى مرحلة في هذه المقاومة، والتي أوجعت العدو الصهيوني أكثر من غيرها، وحظيت بتأييد عربي وإسلامي، وإنساني، غير مسبوق، هي مرحلة الانتفاضة الأولى التي انطلقت شرارتها خلال النصف الثاني من عقد ثمانينيات القرن الماضي، والتي أطلق عليها حينها ب”انتفاضة أطفال الحجارة”، التي رغم التشويش الكبير الذي مارست عليها مغامرة النظام البعثي العراقي بالكويت سنة 1990، والذي ورط القيادة الفلسطينية في صراع مقامر، أفقدها الدعم الخليجي، أو قلل منه إلى الحد الأقصى، مما جعلها تقبل بما قدم لها تحت الطاولة في أوسلو عاصمة النرويج، والذي يعد في نظرنا اقل مما كان يمكن أن تجنيه هذه القيادة من ثمار ملحمة الانتفاضة التي هزت أركان النظام الصهيوني في الضفة وغزة. ومع ذلك، فإن عجرفة الكيان الصهيوني ما كانت لتعطي ما اعطته لمنظمة التحرير، على علاته من اعتراف وسلطة، لولا الضربات الموجعة التي سببتها له الانتفاضة الشعبية الباسلة، التي كانت تحظى بكامل المشروعية الأخلاقية والقانونية، والتي تدعمها قرارات الشرعية الدولية القائمة.
لقد حاول عبثا الراحل ياسر عرفات إعادة سيناريو الانتفاضة مرة ثانية، خلال بدايات الألفية الأولى من القرن الواحد والعشرين، لكن، الدهاء والخبث الصهيونيين، فوتا عليه فرصة دعم قوي فلسطينيا وعربيا ودوليا، فهذه سلطة تربطها بالكيان المحتل اتفاقيات ومعاهدات تقيد قدرتها على قيادة انتفاضة شعبية ثانية، مما سهل على الكيان الغاصب إجهاض الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية، بينما تحايل عليها في غزة من خلال سياسة فك الارتباط، وتغذية الفرقة والشقاق بين الضفة وغزة، والحرص بكل الطرق والوسائل على وجود سلطتين متصارعتين ومتنابذتين في كل منهما، مما أضعف قوة الموقف الفلسطيني إلى أقصى حد، وفرق بين داعميه ومسانديه، بين من يميل لقيادة غزة ومن يراهن على قيادة الضفة. والفائز الأكبر هو الكيان الصهيوني، الذي حول غزة إلى سجن كبير تحكمه حماس بلا حكم حقيقي، وأفرغ السلطة في الضفة من كل قدرة أو قوة، وأحالها إلى سلطة بلا سلطة.
قد يقارن البعض بين حركة مصر يوم ستة أكتوبر 1973 وبين حدث “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر 2023، والحال أنه لا مجال للمقارنة بين الحركتين على الإطلاق، وعلى مختلف المستويات، إذ لا يمكن المقارنة بين مبادرة الجيش المصري، كجيش نظامي، يتمتع بكامل عمقه الاستراتيجي، الوطني المحلي، والإقليمي العربي، والدعم الدولي رغم أنه كان محدودا جدا من طرف الاتحاد السوفياتي، وبين حركة مقاومة محاصرة من كل الجهات والجبهات.
لقد حظيت مصر بمساندة عربية سياسيا واقتصاديا، بتفعيل ورقة النفط من طرف السعودية، وعسكريا تحركت الجبهة السورية، رغم ضعفها وهشاشتها، إذ كادت تسقط دمشق لولا وصول القوات المسلحة المغربية والعراقية التي دافعت ببطولة وبسالة على العاصمة السوية، وسقط من الجيش المغربي شهداء على جبهة الجولان، في الوقت بقيت فيه جيوش بعض الأنظمة “الاشتراكية القومية” متفرجة بحجة أن دساتيرها تمنع حرك قواتها خارج حدودها، والحال أن كل أرض عربية حسب منطقها “القومجي الاشتراكوي” ليست أرضا خارجية أجنبية.
لقد أطلق قادة المقاومة الفلسطينية بغزة على حركتهم موضوع حديثنا نعت “طوفان الأقصى” اعتقادا منهم أنهم سيطلقون شرارة مقاومة توحد الساحات وتحرك كل أقطاب ما عرف ب”محور المقاومة”، في ظرف دولي حساس، تشتعل فيه حرب ضروس بين الغرب وروسيا، في أوكرانيا. ومن دون النبش في مسألة من قبيل هل كانت عند قادة كتائب عز الدين القسام وعود قاطعة من المحور المذكور ب”وحدة الساحات” أو انطلق هؤلاء القادة من رهاناتهم الخاصة التي افترضت أن الأنظمة والتيارات المقول عنها “مقاومة” و”ممانعة” لن تترك الكيان الصهيوني، ومن ورائه الآلة العسكرية والاستخباراتية الغربية الجبارة، يستفرد بغزة المعزولة المحاصرة، برا وبحرا وجوا، والتي لا يمكن أن تدخلها ولو حبة قمح إلا باذن الكيان الذي تقوم عقيدته على إبادتها عن بكرة أبيها.
لم تصمد لا الجبهة اللبنانية ولا الإيرانية، أمام ضربات الكيان الإجرامي، ورضخت لمطالب العدو بالفصل بين الجبهات، بينما اكتفت أنظمة شعبوية عسكراتية بالمنطقة بالتلذذ بخطب عصماء تلعب بها دور البطولة اللفظية في مساندة شعب غزة بينما تقمع كل حركة شعبية داخلية تضامنية مع القضية الفلسطينية، وتزايد، بمعية حركات وتيارات شعبوية على الأنظمة المطبعة مع الكيان الصهيوني. وكأن مجرد قطع هذه الأخيرة لعلاقاتها غير الطبيعية مع كيان غير طبيعي، سيزعزعه ويجعله يتراجع عن جرائمة المتواصلة، والحال أنه لا يلقي بالا ولا شأنا لا للأنظمة المطبعة معه ولا للتي تقول عن نفسها كذبا وبهتانا “الممانعة”.
لسنا من هواة التطبيع مع الكيان الغاصب، بل نشفق على حال الذين قد تضطرهم علاقاتهم معه في يوم من الأيام، إلى مد أيديهم لمصافحة أيادي قادة العدو الصهيوني الملطخة بأبشع جريمة حرب عرفها التاريخ، ممثلة في إبادة شعب بأكمله، إبادة تبثها وسائل التواصل المختلفة بثا حيا. لكننا، في ذات الوقت لا نملك ترف الوقت ورفاهيته، للمزايدة على دول نعلم علم اليقين أنها في ورطة كبيرة بسبب تطبيعها مع هذا الكيان المجرم، الذي لم يحفظ لها ولو القليل من ماء وجهها والاذن لها بإغاثة المكلومين والجوعى والمصابين في غزة، بما استطاعت إليه من إمكانيات.
ستنتهي هذه الحرب يوما ما، نتمناه أن يكون قريبا، ولا شك أن المقاومة الفلسطينية، ستعيد ترتيب أوراقها، وستفكر في نموذج مقاوم جديد، لا يراهن إلا على إمكاناتها الشعبية الذاتية، وما قد يأتيها من دعم، في غالبه معنوي من الشعوب المستضعفة مثلها، ومن دون مراهنة على أنظمة “ممانعة” وصف الناطق باسم المقاومة خذلانها لغزة ب”الخذلان المخزي”. ونحن نكاد نجزم أنه يقصد هذه الأنظمة بالذات وفقط، لأن قادة المقاومة ليسوا بالسذاجة التي تجعلهم يراهنون على دعم أنظمة ما فتئت تشيطنهم وتضعهم على قوائم المنظمات “الإرهابية”.
كما هي مناسبة لتدرك الشعوب المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها الشعوب العربية، أن طريق تحرير فلسطين، يمر عبر تحرير إرادتها من قبضتي استبداد الداخل ووصاية الخارج. من خلال نضال حقيقي حول بناء نموذج حكم ديمقراطي وطني، يعيد بناء الإنسان والاقتصاد والعمران، على أسس الحرية والكرامة والقوة، بعيدا عن مهاترات أنظمة شعبوية وقومجية وعسكراتية توظف القضية الفلسطينية للتغطية على استبدادها الداخلي وإفلاسها الاقتصادي وفداحة عجزها الاستراتيجي، التي عبثا حاولت التغطية عليه بالقنابل الصوتية التي تطلقها في كل اتجاة وبلا مبدأ.
لن نعطي دروسا للشعوب الغربية، فهي تدرك تدريجيا أن ديمقراطيتها تنفلت من بين أيديها بسبب جشع اللوبيات الاقتصادية والعسكرية المتنفذة في المؤسسات الدولية، تحت مسمى الشركات العابرة المجهولة، العابرة للحدود والقارات، وأنه، لا سبيل لشعوب الغرب والشرق، والشمال والجنوب، من توحيد قواها وجهودها، لأن المعركة الكبرى اليوم، أو لنقل: إن أم المعارك الراهنة هي المعركة التي ينبغي أن يخوضها المثقفون والمناضلون من مختلف القوى الشعبية الديمقراطية العالمية ضد القوى النيوليبرالية المتوحشة، التي تعادي الإنسان وبيئته، الطبيعية والاجتماعية، وتهددها بالدمار والإبادة.
وأخيرا وليس آخرا، لا يسعنا إلا أن نعترف بمرارة العاجزين: شكرا غزة التي كشفت وجهنا القبيح في مرآة ما تتعرضين له من إبادة لعلنا نبادر إلى تنقية ولو القليل من بشاعته.
*عبد النبي الحري/ جامعة الحسن الثاني