story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غرفة العمليات11.. البقاء في الجانب الصحيح من التاريخ

ص ص

في أحد أيام فبراير 1989، جلست شابة أميركية تحمل اسم كوندوليزا رايس على مقعد جانبي في غرفة العمليات بالبيت الأبيض.

لم تكن سوى موظفة جديدة في قسم الشؤون السوفييتية والأوروبية الشرقية، تدوّن الملاحظات في صمت، بينما تناقش الوجوه الكبيرة سؤال الساعة: “كيف نتعامل مع غورباتشوف؟”.

لم تكن رايس تدري أن التاريخ سيتسارع أمام عينيها بتلك السرعة التي تجعل اللحظة نفسها عصية على التصديق.

سرعان ما تحولت الجلسات في غرفة العمليات إلى ماراثون من الأخبار المتلاحقة: ثورة في تشيكوسلوفاكيا، الديكتاتور تشاوشيسكو يُعدم في رومانيا، بولندا تنتخب حزب التضامن، والمجر تفتح حدودها مع النمسا… حتى أن الجنرالات في البيت الأبيض طلبوا “جدول مباريات” لتتبع أي الأنظمة يسقط وأيها التالي في الطابور.

كان عام 1989 استثنائيا. فالاتحاد السوفييتي أنهى احتلاله لأفغانستان، وافتتح أول مطعم “ماكدونالدز” في موسكو، بينما كان جدار برلين يهوي تحت مطارق الألمان.

كان ذلك المشهد، كما وصفه ضباط غرفة العمليات، أشبه بنشوة جماعية. ومع ذلك، لم يكن غورباتشوف مرتاحا تماما. رسالة بعث بها إلى كل من بوش، ورئيسة وزراء بريطانيا تاتشر، والرئيس الفرنسي ميتران، حذرت من “فوضى قد تمتد من أوروبا الوسطى إلى بقية العالم”.

كانت تلك الرسالة مزيجا من لغة المتشددين وخوف الإصلاحيين، لكن العالم كان قد اختار المضي في طريقه.

هنا برزت براعة جورج بوش الأب. فبينما ضغطت الصحافة عليه ليظهر حماسا أكبر، اختار أن يتمسك بالحذر: لا يريد أن يستفزّ الكرملين ولا أن يحول نشوة “الحرية” إلى حمام دم.

كتب في يومياته أن وظيفته أن “يتوقف قبل لحظة النشوة”. كان ذلك درسا في القيادة. أحيانا يكون أعظم إنجاز للقائد هو أن يدع التاريخ يسير من تلقاء نفسه.

لكن بينما كانت أوروبا الشرقية تُحرّر نفسها، كان الصينيون في ساحة تيانانمن يدفعون ثمنا باهظا لمحاولة مشابهة. في يونيو 1989، حوّلت دبابات جيش التحرير الشعبي الساحة إلى مجزرة.

آلاف الضحايا سقطوا، ودماء سالت بجوار ضريح ماو تسي تونغ. والمفارقة أن وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر علم بما يجري من ابنه، الذي شاهده مباشرة على “سي.إن.إن”.

في غرفة العمليات، واجه بوش مأزقا شخصيا. فقد كان يعرف الصين جيدا، فقد عمل سفيرا غير معلن فيها، واعتاد ركوب دراجته في شوارع بكين.

لم يستطع أن يكتفي بالصمت. فكتب رسالة مؤثرة إلى دنغ شياو بينغ، تحدث فيها عن “الصداقة العميقة” و”التاريخ العريق”، محاولا إنقاذ ما تبقى من العلاقة.

أرسلها سرا، في عملية محاطة بأقصى درجات التكتم والشفرة الأمنية. وكانت رسالة حزن أكثر منها احتجاجا، لكنها أبقت قنوات التواصل مفتوحة.

على الهامش، كان عهد بوش الأب بداية تحوّل تكنولوجي في إدارة الأزمات. الفيديو الآمن (SVTS) الذي كان مجرد غرفة مهجورة تُستعمل للغداء، تحول فجأة إلى أداة حيوية خلال محاولة انقلاب في الفلبين، ثم لاحقا في أزمة غزو الكويت.

وللمرة الأولى، لم تعد غرفة العمليات مجرّد مكان يجتمع فيه الجميع، بل صارت عقدة في شبكة تتوزع بين وزارات وهيئات، يلتقون بالصوت والصورة دون الحاجة للسيارات السوداء التي تكشف وقوع الأزمات.

في غشت 1990، لم يصدق كثيرون أن صدام حسين سيغامر باجتياح الكويت. لكن في ليلة الثاني من ذلك الشهر، تحولت الشكوك إلى حقيقة.

يروي ريتشارد هاس، وهو مساعد خاص للرئيس وكبير مديري شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي، أنه وجد نفسه يكتب نقاط حديث للرئيس وهو بملابس النوم بعد أن قضى أياما يبيت في غرفة العمليات.

وعندما نزل بوش من مروحيته أمام الصحافة، أمسك بالورقة وقال كلمته الشهيرة: “هذا لن يستمر”… ثلاث كلمات صارت إعلانا للحرب التي ستعرف لاحقا بعاصفة الصحراء.

سر نجاح تلك المرحلة، كما يجمع كثيرون، كان شخصا قصير القامة، قليل الظهور، اسمه برنت سكوكروفت، وهو مستشار الأمن القومي للرئيس بوش الأب.

لم يكن نجم تلفزيون مثل كسينجر، ولم يحتكر الرئيس كما فعل آخرون، بل كان “الوسيط النزيه”، الذي يحافظ على ثقة الجميع، ويعقد الإفطار الأسبوعي مع بيكر وتشيني بلا مساعدين ولا محاضر.

لقد كان مثالا لما يمكن أن يصنعه القائد الهادئ: ثقة متبادلة تجعل الجهاز يعمل كآلة دقيقة.

على عكس كثير من الرؤساء، كان بوش الأب يحب موظفي غرفة العمليات ويعاملهم كأصدقاء. أهدى أحدهم زجاجة شامبانيا عند ولادة ابنه، ودعته زوجته باربرا لمشاهدة الأفلام في عطلة نهاية الأسبوع.

حتى حين أخطأ أحد الفنيين وظن أن الرئيس زميله، وخاطبه بكلمة نابية، لم يغضب الرئيس، بل مازحه قائلا: “لم أعلم أني تأخرت لهذه الدرجة!”.

كانت تلك الروح العائلية جزءا من قوة الفريق.

مع ذلك، أثبتت السياسة مرة أخرى أن الانتصارات الخارجية لا تضمن البقاء في الحكم. بعد حرب ناجحة ورضا شعبي بلغ 90%، خسر بوش الانتخابات لصالح بيل كلينتون، لأن الاقتصاد الداخلي كان يئن تحت وطأة الضرائب والركود.

في لحظة مؤثرة، سلّم سكوكروفت الرموز النووية للرئيس الجديد، ثم خرج من بلاير هاوس وحيدا، بمعطف مطر قديم وقبعة فيدورا، والدموع في عينيه.

ما يقدمه هذا الفصل من كتاب “غرفة العمليات” ليس مجرد أرشيف لسنوات الحرب الباردة ونهايتها، بل درس بليغ في السياسة: القائد الناجح ليس من يركض خلف التاريخ ليتصدر المشهد، بل من يعرف متى يتراجع خطوة ليترك للتاريخ أن ينضج بنفسه. وأن الحذر أحيانا يساوي الشجاعة، كما فعل بوش في برلين. وأن العاطفة والإنسانية، كما في رسائله للصين أو هداياه لموظفيه، ليست ضعفا بل قد تكون مصدرا للقوة.

الخلاصة أن السياسة، مثل غرفة العمليات، ليست مكانا للانفعال، بل فضاء لصناعة القرارات التي تُبقي على “الجانب الصحيح من التاريخ”.