عن حرب الـ12 يوماً.. المؤجّلة

توقّفت هذه الجولة من الحرب بين إسرائيل وإيران، لأن تقدير جميع أطرافها أن في إنهائها مصلحةً.
1ـ
بالنسبة لإيران، وقف إطلاق النار عند هذه الحدود “مقبول”، بعد الضربات التي تلقتها، وبعد الضربات التي وجّهتها.
هذه أول حرب كبيرة تخوضها على أراضيها منذ الحرب الإيرانية العراقية. كانت حرباً مفروضة و”متوقّعة” بعدما خسرت و”انهارت” استراتيجيتها لـ”الدفاع المتقدّم” إثر انحسار تأثير أذرعها المسلحة في المنطقة، وخسارتها تمركزات للحرس الثوري على حدود الأراضي المحتلة، وسقوط النظام السوري.
توقّف الحرب بالنسبة لطهران وقفٌ لنزيفٍ في البنية العسكرية والموارد البشرية، العلمية وفي القوات المسلحة. فتحَ جيش الاحتلال الإسرائيلي مساراً نحو السيطرة على الأجواء الإيرانية، وهو أمر غير مستغرب، في ظل الفوارق الكبيرة المعلومة، كما فتحَ خطوطا استخباراتية لا تزال نشطة ميدانياً. وهذا صعّب على طهران تدبير الحرب بأقلّ الخسائر.
أما الحدث الذي غيّر أجزاء من مشهد المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، فيبقى تدخّل واشنطن بقصف منشآت نووية في 3 مواقع. كانت الضربة التحوّل الأبرز.
وبخصوص هذا الهجوم، تُسجّل 3 ملاحظات على الأقل:
أ ـ اشتغلت واشنطن، منذ اللحظات الأولى للهجوم، على تكريس صورة “نصر”، عُمقها القول إن الخطر النووي زال، وأن إسرائيل صارت “أكثرَ أمانا”. هذا كان يخدم هدفاً سياسياً واضحا يقدّم مخرجاً لإسرائيل لإنهاء الحرب، عبر تسويق مقولة أن “المهمة أُنجزت”. وفي ذلك إعادة تعويم هائلة لنتنياهو الذي كان يترنّح تحت أكثر من ضربة قبل أن يُهاجم إيران، بعض تمظهراتها: فشل مستمر في استعادة المحتجزين في غزة. بروز مؤشرات انقلاب بين حلفائه وتلك الدعوة لإسقاط الحكومة بدفع من اليمينيين المتطرفين. وضغوط غربية متصاعدة على خلفية حرب غزة.
ب ـ الهجوم الأمريكي على إيران عمد إلى إدخالها في حالة “هلع” و”شك” بشأن ما يمكن أن يحدث تالياً، ورفع ترامب السقف إلى التلميح بإمكانية أن تتحوّل المهمة سريعاً إلى إسقاط النظام في إيران. تحدث مسؤولون أميركيون قبل يومين من الهجوم عن الحاجة إلى “استعراض قوة”. وفعلياً، تجاوز الأمر الاستعراض إلى تنفيذ ضربة عنيفة بأحدث أسلحة التدمير العميق، تلاه ترويج واسع لإلحاق أضرار بالمشروع النووي الإيراني صعبة أو غير قابلة الإصلاح.
ج ـ إيران سكتت بشأن حجم الأضرار في منشآتها النووية. أكدت فقط أنه، إلى حدود اللحظة، لم يثبت وجود خطر إشعاع نووي. أولى التعليقات الإيرانية ( غير الرسمية) بعد الهجوم الأمريكي أخبرت أنه جرى نقل اليورانيوم المخصّب ومواد قبل الهجوم، وتحدثت صحف أمريكية عن “نشاط” شاحنات في موقع فوردو. ولا شيء مؤكّد.
قبول إيران وقف الحرب قد يكون سببه الأضرار العسكرية التي تعرّضت لها، وبذلك احتاجت قرارا “برغماتيا” لتجنّب الهزيمة. وقد تكون، فعلا، أمّنت الأجراء الأهم في مشروعها النووي، وحمَت جهود عقود غير قابلة للهدر، خاصة إذا كانت فعلا تقترب من عتبة السلاح النووي، وفق الاتهامات الغربية الإسرائيلية.
وفي اعتقادي، ستدخل المفاوضات متخفّفة من ضغوط ناتجة عن الزعم باقترابها من القنبلة النووية، على قاعدة القناعة الأمريكية أن مهمة تدمير المشروع النووي تحقّقت. من مصلحتها أن تتماهى مع النشوة الأمريكية الإسرائيلية، لكن حجم الأضرار التي تعرّضت لها في الحرب ستصعّب موقعها التفاوضي. كان هذا هو الغرض من الهجوم الأمريكي الإسرائيلي، وسيبرز لحظة الجلوس للتفاوض، إذا ستضع واشنطن، بحسب المتوقّع، على الطاولة قائمة شروط أكبر ممّا كانت تطلب قبل 12 يوماً.
الغموض بشأن ما جرى فعلا في المنشآت النووية الثلاث سيكون وجها من وجوه “حرب المعلومة” المقبلة. أمريكا تقول إنها تخلّصت من الخطر، لكنها غير قادرة على إثبات ذلك. وطهران تفضّل أن “يبقى الوضع على ما هو عليه”، إلى حين.
وهذه الوضعية تمهّد للسؤال الأهم الذي ستطرحه إيران على نفسها: كم ستغيّر هذه الحرب من رؤية طهران للتقنية النووية، نحو وجوب تأمين مصالحها بسلاح رادعٍ، بناءً على نتائج حرب الـ12 يوما؟. ما سمعه وزير الخارجية عراقجي أمس، في أنقرة وموسكو، يبدو أنه كان دول المأمول بشأن “ما يجب” بين الحلفاء. ولربما كان ذلك أحد أسباب موافقة طهران على وقف إطلاق النار، بعدما تبيّن أنها ستُكمل المواجهة وحيدة.
ستحاول طهران الجواب على سؤال ما تريده بالتقنية النووية. وقطعا ستختار بين أحد مسارين واضحين: التخلي عن أي طموح نووي غير سلمي، والاستثمار في نقاط قوة أخرى تؤمّن مصالحها. أو سيرتدّ كل ذلك العدوان الذي تعرّضت له نحو تعزيز القناعة بالاستثمار في التقنية النووية الإيرانية (غير المستوردة) لقلب الموازين في المنطقة، وفرض نفسها دولة نووية.
2ـ
بالنسبة لإسرائيل، توقّف الحرب مصلحةٌ، من وجهين:
ـ ترامب، الحالم بجائزة نوبل، فعل “أقصى” ما يمكن أن يفعله لإسرائيل في هذه المرحلة بضرب منشآت إيران النووية، ثم “أقنعها” أن الخطر زال، أو لم يعد وشيكا. وإسرائيل أكدت، بشكل واضح طيلة الساعات التي سبقت إعلان وقف إطلاق النار، أنها لا تريد الاستمرار في مواجهة استنزاف “ثنائية” مع إيران، مادامت ضرباتها لن تنشئ واقعاً جديدا في طهران، أكثر ممّا فعلت واشنطن.
ـ طيلة 12 يوماً، ألحقت إيران أضرارا كبيرة بإسرائيل. أضرار مادية باستهدافات دقيقة لمواقع استراتيجية، واستمرار الحرب كان سيعني مزيدا من الضربات، التي أشعرت المستوطن الإسرائيلي، لأول مرة منذ 7 أكتوبر، أن الحرب قريبة منه جداً.
وأيضا، ألحق طهران بإسرائيل أضرارا “رمزية”، ترتبط بالشعور أنّ بالإمكان إيذاء دولة الاحتلال وإدخالها في حالة “هلع”، مادامت كل منظوماتها الدفاعية لا توفّر حماية مطلقة. الصواريخ الباليستية التي سقطت على الأراضي المحتلة تحوّل كبير، ويعني أطرافا في المنطقة. عملياً، سقط جزءٌ من “جدار الخوف”. ما تعرّضت له إسرائيل إذا وُضِع في إطار جولة ضمن حرب مستمرة يعني الكثير.
ستعود إسرائيل الآن إلى المعركة الأصلية في غزة، بعدما حسّنت وضعها الإقليمي عسكرياً. في غزة المعركة الأساسية، والكوارث المتراكمة، والخسائر الفادحة لدولة الاحتلال. إجرام يتراكم فوق بعضه، سيطوّق دولة الاحتلال باستمرار ولسنوات. قد يجبر ترامب نتنياهو، بعد حرب إيران وما قدّمه، على إنهاء حرب غزة. لكن، بأي ثمن، لكل الأطراف؟
3ـ
بالنسبة لأمريكا، كانت معنية بعدم توسّع الحرب. ووعود ترامب للأميركيين بأنه لن يتورّط في حروب خارجية تؤثر في القرار النهائي وحدود التدخّل. كان الرئيس الأمريكي معنياً بـ”تهدئة مخاوف” دولة الاحتلال، وأيضا باستثمار ظروف ما بعد 7 أكتوبر لإعادة ترسيم المشهد الإقليمي بتوازنات جديدة، تكرّس هيمنة إسرائيل أكثر.
ضرب المنشآت النووية الإيرانية يحقق، من المنظور الأمريكي، هذا الهدف، غذّاه استعداد إيراني لإنهاء الحرب مدفوع برغبة تفادي هزيمة غير مُسْتَبْعدة ( وغير حتمية)، قد تؤدي إلى انهيار النظام. قبِلت طهران بنصف هزيمة، وأعطت ترامب ما أراد، في انتظار سياقٍ إقليمي ودولي آخر، ستكون فيه إسرائيل أضعف.
النظام الحالي في إيران لا يمكن أن يتعايش مع إسرائيل، مثلما يصعب على إسرائيل التعايش معه، وستلعب واشنطن “دور شرطي” مرور بينهما. على هذا الأساس، يُفهم ما جرى وقفاً لإطلاق النار، وليس نهاية للحرب.
(..)
وإذا تقاطعت مصالح كل الأطراف على إنهاء هذه الجولة من الحرب، فإن الوضعية الحالية تمنح كل طرفٍ الحقّ في الإضاءة على مكاسبه، وتحجيم خسائره، ومحاولة فرض شروطه التي لم تتحقّق بالحرب عبر الدبلوماسية والمفاوضات، التي لن تكون أقلّ شراسة من حرب الـ12 يوما التي بدأت خاطفة، وانتهت بشكل “درامي”.. وحده ترامب يتنقّل، بشكل “مذهل” و”مجرم”، بين وضعيات متناقضة، من التفاوض مع إيران وترويج الحرص على “حلّ دبلوماسي”، إلى العدوان، ثم الانقلاب سريعاً للتموقع في سلوك “داعية السلام”. لعبة الشرطي الجيّد والشرطي السيء.