عنصرية الملاعب الأوروبية.. آفة تضرب قيم الرياضة

في إحدى أمسيات شهر يناير من سنة 1981، أخذ أصدقاء الشابة الإنجليزية، إيفون رودوك، وصديقتها، أنجيلا جاكسون، بالتقاطر على منزل الأخيرة، في منطقة “نيو كروس رود” جنوب شرق لندن، للاحتفال بعيد ميلاد إيفون وأنجيلا.
لم تَحُل ثلوج لندن وصقيعها دون أن يكون الحفل صاخبًا. لكن تلك الحرارة والحميمية لن تنتهي إلا في الساعة الخامسة من صباح الأحد على وقع حريق ضخم أتى على جميع من كانوا المنزل وهم ثلاثة عشر شابًا من السود تتراوح أعمارهم بين 18 و22 عامًا، وناجٍ وحيد سيقدم على الانتحار بعد ذلك بعامين.
في مساء ذلك الأحد الحزين، كان نادي ميلول لكرة القدم، وهو فريق منطقة برموندسي، التي تقع في منطقة الحادث، على موعد مع مباراة جديدة، وما إن أعلن الحكم صافرة البداية حتى شرعت جماهير الفريق في الهتاف بصوت واحد: “متفقون جميعًا على أن الزنوج يحترقون أفضل من البنزين”.
أحدثت تلك الأهازيج العنصرية المقززة صدمةً في صفوف المهتمين بكرة القدم في إنجلترا وباقي البلدان الأوروبية، وبدأت منذ ذلك التاريخ حالة من الوعي بضرورة مقاومة هذه الخطابات العنصرية داخل الملاعب.
وعلى مدى هذه العقود الأربعة أطلقت الفيفا والاتحاد الأوروبي لكرة القدم، بمعية الحكومات، مبادرات وتشريعات لمكافحة العنصرية داخل الملاعب، لكن هذه الجهود لم تستطع الحد من الظاهرة المقيتة.
فبين أهازيج جماهير نادي ميلول شتاء عام 1981، وما حدث للاعب البرازيلي الأسود، فينيسيوس جونيور الموسم الماضي، حين وصفه مشجعو فريق نادي فالنسيا بأنه “قرد”، خلال مباراة جمعت فريقهم بفريقه ريـال مدريد، وما تعرض له من قبل ماريو بالوتيلي، وأنتوني مارسيال، وأبو ديابي، لإساءات عنصرية من جماهير الأندية المنافسة، هو مسار طويل لهذا الفيروس الذي يضرب في الصميم القيم الفاضلة التي تأسست عليها الرياضة.
ظاهرة أوربية
ليس غريبًا عن جماهير كرة القدم في الملاعب الأوروبية أن تصف اللاعبين سود البشرة بالقرود. يحدث ذلك منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي حيث الهتاف يتخذ شكل إصدار أصوات غريبة عندما يحوز اللاعب الأسود على الكرة خلال المباراة، ثم تطور الأمر إلى حد رمي ثمار الموز داخل الملعب في كنايةٍ عن طعام القرود المفضل.
ويمكن أن تصدر هذه الهتافات عن جمهور الفريق الخصم أو حتى جمهور فريق اللاعب عندما يضيع فرصة أو يتسبب في قبول هدف.
وتكاد هذه الظاهرة تكون مشتركًا أوروبيًا، على الأقل في الدوريات الكبيرة، مثل إسبانيا وإيطاليا وإنجلترا، وهي لا تستهدف فقط كرامة اللاعب، بل تؤثر كذلك على أدائه، حيث أن التحرشات العنصرية العلنية، بسبب ما تُخلّفه من ضغط نفسي على لاعبين تكون عادةً معدلات أعمارهم لا تتجاوز الخامسة والعشرين وقادمين من بيئات غير أوروبية، تقلل من جودة أدائهم.
يبرهن على ذلك تجربة أجراها باحثون من مركز أبحاث السياسة الاقتصادية الأوروبي، على الدوري الإيطالي خلال فترة وباء كورونا أثناء المباريات التي لُعِبت دون جمهور، حيث توصلت تلك التجربة إلى أن اللاعبين من إفريقيا وشرق أسيا، الذين يتم استهدافهم بشكل كبير من خلال المضايقات العرقية أثناء المباريات، يشعرون بتحسن كبير في الأداء عندما لا يكون المشجعون في الملعب، في حين أن أداء اللاعبين من مناطق أخرى والبيض لا يتغير بشكل كبير.
وقد تم توثيق التأثير باستخدام معلومات شاملة عن الأداء الفردي للاعبين تركز على مجموعة واسعة من مقاييس الأداء بشكل موضوعي (مثل عدد التمريرات، والمراوغات، والمساعدة، والأهداف). تم الحصول على النتيجة من خلال إضافة بيانات التحليل الخاصة بحوادث السلوك العنصري التي سجلتها السلطات الإيطالية في الجزء الأول من الموسم، وهذا يؤكد الفرضية القائلة بأن العنصرية تلعب دورًا قويًا في طبيعة النتائج.
ضعف تنوع الجمهور
لا يتعلق الأمر فقط باللاعبين من ذوي البشرة السوداء أو الملونين القادمين من الشرق الأوسط وآسيا، بل أيضا بالجمهور القادم من هذه البيئات. حيث تعرف نوعية الجماهير الحاضرة في مدرجات الملاعب الأوروبية، فقرا كبيرا في التنوع مقارنة بالمجتمع، ومن النادر العثور على الأفارقة أو العرب أو الآسيويين بين جماهير الأندية الأوربية.
ويمكن تفسير هذا الغياب بأسباب مادية، حيث من السائد أن تنتمي هذه الأقليات إلى الطبقات الوسطى والشعبية غير القادرة على الدفع مقابل مباريات يمكن أن تصل أسعار تذاكرها إلى أرقام خيالية، في مقابل المكانة الطبقية الأعلى للعائلات من “أصحاب الأرض”.
وكذلك لأسباب عاطفية تتعلق بروح الانتماء، بحيث يكون المشجع الأبيض أكثر ارتباطًا بفريق منطقته أو مدينته، بوصفه مواطنًا أصليًا، فيما يكون تعلق المهاجر أو المواطن المنتمي إلى أقلية ملوّنة موزعًا بين فريق مدينة الإقامة ونوادي البلد الأصلي.
لكن الدافع العنصري يبقى سببًا رئيسيًا في فقر التنوع الذي تعاني منه مدرجات الملاعب الأوروبية، إذ يشير استطلاع رأي نشر في إنجلترا بعد رفع الحظر على الجماهير في أعقاب الوباء أن واحدًا من كل ثمانية يقول إنه لا يخطط لحضور مباراة مباشرة بسبب مخاوف بشأن العنصرية، ذلك أن ثلث مشجعي كرة القدم من الأقليات العرقية الذين شاهدوا مباراة في ملعب في إنجلترا قد تعرضوا شخصيًا لإساءات عنصرية أثناء وجودهم هناك بما في ذلك 8٪ قالوا إن هذا حدث لهم ذلك مرات عديدة.
جذور تاريخية وثقافية
تعد الدول الأوروبية من القوى الاستعمارية الكبرى التي استعمرت العديد من المناطق في العالم، خصوصًا في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث تميزت هذه الفترة بنظرة استعلائية تجاه الشعوب التي تم استعمارها، إذ نظر الأوروبيون إلى الشعوب المستعمَرة على أنهم أقل شأنًا في غالب الأحيان، ما أسس لمفاهيم عنصرية راسخة ضد الأعراق غير الأوروبية.
هذه الأفكار الاستعمارية والتمييز العنصري كانت موجودة قبل بداية كرة القدم الحديثة، واستمرت في تشكيل العديد من المواقف السلبية تجاه الأشخاص من أصول غير أوروبية.
وعندما بدأت كرة القدم تنتشر في أوروبا، كانت الفرق الأوروبية في الغالب تتكون من لاعبين من ذوي البشرة البيضاء، وعندما بدأ المهاجرون من مستعمرات سابقة في اللعب في البطولات الأوروبية، نشأت تفاعلات ثقافية وصراعات بسبب التصورات العنصرية المتأصلة.
وخلال القرن العشرين، وخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت أوروبا موجات من الهجرة من المستعمرات السابقة، كما جلبت التغيرات الاقتصادية العديد من المهاجرين بحثًا عن فرص أفضل، حيث أصبح العديد من المهاجرين، خصوصًا من أفريقيا والشرق الأوسط، يقتحمون الأندية الأوربية، وهو ما جعلهم هدفًا لانتقادات عنصرية سواء من قبل الجماهير أو من قبل وسائل الإعلام.
هذه الهجرة تسببت في تصاعد المواقف العنصرية بسبب الانقسامات الثقافية والاجتماعية، مما أعطى المجال لبعض الجماهير للتعبير عن مشاعرهم العدائية في ملاعب كرة القدم.
وفي العقود الأخيرة، أصبح من المعروف أن بعض الجماهير في الملاعب الأوروبية تتبنى مواقف عنصرية وأحيانًا تتعاون مع الحركات السياسية اليمينية المتطرفة. هذه الحركات تميل إلى معاداة المهاجرين والأقليات العرقية، وتنشط بشكل خاص في الأوساط الرياضية التي تهيمن عليها جماهير شابة، ما يجعل الملاعب الأوروبية بيئة خصبة لظهور هذه المواقف.
في بعض الأحيان، تكون الملاعب مكانًا يعبر فيه هؤلاء عن مواقفهم السياسية المتشددة من خلال الهتافات العنصرية أو رفع الشعارات الداعمة للأفكار المتطرفة. العديد من مشجعي الأندية الأوروبية، خصوصًا في بلدان مثل إيطاليا، إسبانيا، وإنجلترا، تبنوا مواقف معادية للأجانب واستخدموا الملاعب كمنصة لنشر هذه الأيديولوجيات.