على العروي أن يتكلم!
للتوّ اكتشفوا عبد الله العروي، للتو أرادوه أن يتكلّم.. وكأن العروي صامت، وكأنه لم يتكلم من ذي قبل، وكأنه رجل علم ونظر لا يعرف عن واقع الناس شيئا.. ألم يسبق له أن حدثهم في التراث فألبسوه “لباس القطيعة” من غير فهم ولا تدقيق؟! ألم يسبق له أن خاطب النخب فاعتبروا دعوته متعالية، وغير ماركسية؟! ألم يسبق له أن اقترح نموذجه في الحداثة فاعتبروه نموذجا للأمل؟! ألم يسبق له أن تحدث في السياسة العملية (“عالم السياسة” بتعبيره) فهل من منتبه؟! ألم يكتب عن مستجدات العقد الثاني من الألفية الثالثة -في كتابه “كارني كوفيد”- فمن همّ بقراءته ودراسته؟!
ما نوع الكلام الذي تريدون سماعه من العروي؟! التحليل، لا يروقكم ولا يستهوي نفوسكم.. الإدانة، لم تكن للعروي أسلوبا فيكم قبل غيركم.. لا ازدواجية في إدانته، ولا كيل بمكيالين.. لو أدان، لكانت إدانته قاسية على من يطالبه اليوم بالكلام! من يحدد تاريخ الإدانة، بدايتَها ونهايته؟! الإدانة قديمة، واليوم نجني حصادها..
ألا يستحيي المتحدث وقد أدار ظهره ل”برنامج العروي”، فيما يطالبه اليوم ب”قول الحقيقة”؟! أية حقيقة سيقول؟ حقيقته القديمة أم حقيقتكم الجديدة؟ أيُستشار العروي في النهايات فحسب؟! ألا يصلح لبدايات اقترفتموها بأنفسكم؟! يحضر في مأساتكم، ويغيب في الملحمة! هكذا تريدون العروي، مثقفا على مقاس أصحاب الإيديولوجيات، يخوض غماركم تحت سقفكم لا تحت سقفه، يتكلم بلسانكم بعد أن يصيبه “بكم العقل”.. تريدون العروي النقيض لذاته، المختنق ب”عقلكم المطلق” وكأنه لم يكتب “مفهوم العقل”.
واليوم بالذات، “تأخذكم العزة بالإثم” فتقولون إن “ليبرالية العروي وحداثته تلتطم بحائط المأساة الغربية”.. نسيتم، أو تجهلون، أن العروي بدأ مع ماركس لا مع الغرب، مع الليبرالية الأولى لا مع الإمبريالية، مع النقد التاريخي لا مع التاريخ الاستشراقي، مع “الخصوصية السياسية المغربية” لا مع الاستلاب في الأجنبي، مع الوطن العربي لا مع الاستعمار.. ربما لم تقرأوا “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، و لا “مفهوم الحرية”، ولا “مفهوم الدولة”، ولا “من ديوان السياسة”، ولا “استبانة”، ولا “مجمل تاريخ المغرب”.. ربما لم تقرأوا فيها نقدا خاصا بالعروي، يشعله في أوراق الغرب الأخيرة، في أوراقه الاستعمارية وإن قرأ أوراقا أخرى من تاريخ البدايات الليبرالية (الحداثة الأولى) والنقدية (ما بعد الحداثة الأولى)..
اجتمعت في العروي شخصيات المؤرخ، المحلل السياسي، الباحث الاجتماعي؛ ثم الفيلسوف بعد أن تستنفد الشخصيات الثلاث السابقة أغراضها.. أي شخصية من هذه تطلبون كلامها ووجهة نظرها، وكلها لن يروقكم كلامها إذا تكلمت بصرامة منهجية، تلك الصرامة المعتادة في عبد الله العروي؟! هل تبحثون عن موقف شخصية منها أم تريدون إخراج “الدوغما” من عقل العروي؟! أتريدونه أن يتكلم بلغة الموعظة والبيان السياسي؟! أتريدون لوعيه أن يصبح “هباء منثورا” في “هستيريا إيديولوجية” تبحث عن مكتسب سياسي؟!
المثقف يقول الحقيقة، وهذه تربك حساب “رجل السياسة”.. يتوارى المثقف حتى لا يتنكر للحقيقة، وحتى لا يشتد عليه النقد ممن يطلب “الطوبى” وهي خصم العروي اللدود (في النظر).. يصمت عن الحديث، لأنه ليس مخولا للزراعة ولا لجني الثمار.. يؤيد النجاعة في الزمن، ويقول إنها ملك للدولة ونخبها بعد أن أخلف المجتمع موعده مع “الوعي السديد”.. ما الذي يفعله إذن؟ يمارس الحرفة التي يتقنها: الحديث في الواقع بعد اكتماله اقتداء بماكس فيبر (راجع “مفهوم الدولة”)، يكتب لمغاربة العقود، وربما القرون، اللاحقة.. يعوّض ألم الحاضر بأمل المستقبل البعيد، يؤرخ في الماضي معتبرا بتبدل الزمن..
وأخيرا نقول: لو علمتم ما سيقوله العروي لما طالبتموه بالكلام، لطالبتموه بالصمت حتى لا يجرح “حضرتكم” في “عالم السياسة” و”تأخركم النظري” في “علم السياسة”!