story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

“على الأبواب.. الحرب الكورية الثانية “

ص ص

قلت في المقال السابق بأن روسيا، في إطار استراتيجيتها الاستباقية للحرب الحتمية مع الغرب، قامت بشيئين، أولهما ذو بعد داخلي ويتعلق بملاءمة اقتصادها مع وضع الحرب، وتحيين عقيدتها النووية خلال الشهر الماضي بما يمكنها من توسيع هامش الفعل لديها، وتحيين العقيدة العسكرية البحرية منذ سنتين ونيف بما يسمح لها بخوض المواجهة والدفاع عن مصالحها في جميع بحار ومحيطات العالم، وتوسيع قاعدة الصناعات الحربية مع دخول العديد من الأسلحة الجديدة والمتطورة جدا من صواريخ فرط صوتية وطائرات بدون طيار وطائرات حربية بمواصفات غير مسبوقة وبوارج حربية حيز الخدمة.. وثانيهما ذو بعد خارجي من خلال عقد مجموعة من المعاهدات والمواثيق العسكرية مع بعض الدول وفق هندسة دقيقة على شكل حزام يحيط بروسيا.

معاهدات دفاعية، ظاهرة وضامرة مع كل من الصين، وباكستان وأفغانستان والفيتنام وإيران وكوريا الشمالية، كما ضمنت إلى حد بعيد حياد الهند… عمل جيوستراتيجي كبير جدًا قام به بوتين بشكل دقيق، ويكفي أن ننظر للخريطة ليتبين لنا مدى عبقرية هذا العمل.

بينما ظل الغرب يعتقد بأن حربه بالوكالة ضد روسيا بواسطة أوكرانيا وعقوباته الاقتصادية ستضمن له الانتصار في هذه المواجهة…الآن تغيرت المعادلة كثيرا لصالح روسيا كنتيجة لما قام به بوتين، فهل يبقى الغرب يتفرج على كل هذا وهو مكتوف الأيدي؟

وبصيغة أخرى: ما الذي كنت سأفعله شخصيا لو كنت مكان أصحاب القرار الاستراتيجي الغربي؟ وكيف يمكنني إفشال كل هذا المخطط؟ خصوصا أن الحرب في أوكرانيا فشلت تماما، والرئيس زلينسكي، الذي استيقن من قرب خذلان الغرب له رغم الشعارات، صار قاب قوسين أو أدنى من إعلان استسلامه والدخول في مفاوضات مع موسكو، تتنازل بموجبها كييف عن جزيرة القرم التي ألحقتها روسيا سنة 2014. ومناطق الدونباس التي ألحقتها سنة 2022، والتوقيع على عدم التحاق أوكرانيا بحلف الناتو، مقابل السلام.

ومن جهة ثانية، فإن المخطط المتعلق باستدراج روسيا لحرب إقليمية في الشرق الأوسط بشكل عام وفي سوريا بشكل خاص (كما قلنا في المقال السابق الصادر على صفحات موقع صوت المغرب بتاريخ 20 أكتوبر الجاري) صار أكثر تعقيدًا مما كانت تظنه واشنطن وحلفاؤها بعد دخول اللاعب الإيراني بقوة على خط المواجهة… لذلك لا أستبعد، بل أتوقع، من خلال استقراء بعض الإشارات والأحداث، أن يكون الغرب قد بدأ في تنفيذ خطة ثالثة بديلة يكون هدفها الأساسي هو خلط أوراق موسكو و بعثرة التحالفات والمعاهدات التي عقدتها …

المؤشرات التي أقصد تنبئ بأن ضربة الغرب في جولته الجديدة من حربه مع موسكو ستنطلق هذه المرة من شبه الجزيرة الكورية…على اعتبار أن أهم وأخطر المعاهدات والتحالفات العسكرية التي عقدتها روسيا مؤخرا هي تلك التي وقعتها مع بيونغ يانغ، والتي تقضي موادها بشكل واضح بأن الاعتداء على أحد البلدين يعتبر اعتداءً على البلد الآخر ويعتبر سببا مباشرا في دخول البلدين غمار الحرب بشكل مشترك.

وما يعزز هذه الفرضية هو أن هذه المعاهدة تأتي في سياق يتسم بتأزم الأوضاع بين الكوريتين حتى وصلت لمستوى خطير جدًا وأصبحت قابلة للاشتعال في أية لحظة، وتزيدها عملية التحريض التي تقوم بها واشنطن وحلفاؤها داخل الأوساط السياسية والإعلامية والعسكرية لكوريا الجنوبية اشتعالا، بالإضافة لتمكين سيول من التكنولوجيا العسكرية الامريكية بشكل يوازي تقريبا بينها وبين دول الحلف الأطلسي على غرار نظام “ثاد” الصاروخي الذي زودت به واشنطن تل أبيب حديثا، ولا أرى شخصيا من هدف لكل هذا سوى إشعال مواجهة مسلحة بين الكوريتين، ولن تعبأ واشنطن في كل هذا بمصير كوريا الجنوبية في هذه المواجهة، كما لم تعبأ من قبل بمصير أوكرانيا وغيرها، لأن واشنطن تضع مصالحها الجيو استراتيجية فوق كل اعتبار، خصوصا أن حربا بين الكوريتين ستوفر لواشنطن إمكانية خوض حرب بالوكالة مع كل من الصين وروسيا في وقت واحد.

فالحرب بين الكوريتين ستجر روسيا، بناء على المعاهدة التي تربطها بكوريا الشمالية، نحو فتح جبهة عسكرية ثالثة (بالإضافة لجبهتي سوريا وأوكرانيا) وسيؤدي تورط موسكو في حرب أخرى إلى إضعافها وتشتيت مجهودها العسكري بين الجبهات الثلاث، وقد ينتهي الأمر إما بهزيمتها على كل الجبهات، إن هي تورطت في هذه الحرب وإما بلجوئها إلى الأسلحة النووية لتفادي الهزيمة.

أما إذا أحجمت موسكو عن مساعدة بيونغيانغ ضد كوريا الجنوبية والحلف الغربي فإن ذلك سيضرب مصداقيتها في العمق ويؤدي إلى تفكيك التحالف الروسي-الكوري من جهة، ويلقي بظلال الشك على باقي التحالفات والمعاهدات التي أبرمتها موسكو آنفا، كما ستؤدي هزيمة كوريا الشمالية إلى محاصرة كل من الصين وروسيا جنوبا.

وبناءً عليه فإن اندلاع الحرب في شبه الجزيرة الكورية سيؤدي على الأرجح لاندلاع مواجهة إقليمية بين حلفاء واشنطن وخصوصا اليابان وحلفاء كوريا مثل الصين. وللإشارة فإن الصين وأمريكا سبق أن تواجها في كوريا بداية الخمسينيات حيث أدى دعم متطوعي الجيش الصيني في عهد ماو تسي تونغ للشيوعيين إلى هزيمة الأمريكان .

ومن جهة ثالثة فإن إشعال الحرب الكورية سيمكن الغرب من توجيه تهديد عسكري غير مباشر للصين وربما محاصرتها بهدف ثنيها عن التفكير في التدخل في تايوان. وسيستغل الغرب الحرب الكورية الجديدة من أجل إغراق منطقة المحيط الهادي بأسلحة أمريكية وتعزيز القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة في أفق أي مواجهة مع بكين، كما أن عسكرة المحيط الهادي ستؤثر كثيرا على التمدد الاقتصادي للصين وحصر مجالها البحري إلى الحد الأقصى عبر دعم مطالب كل من الفلبين واندونيسيا والفيتنام، وتدمير الاقتصاد الصيني من خلال جعل بحر الصين غير صالح للتجارة الدولية بحجمها الحالي أو بالحجم الذي كانت تخطط له الصين .

وأخيرا، فالحرب في المحيط الهادي ستحول أنظار التحالف الصيني الروسي عن إفريقيا وتساهم في تقليص تواجدهما السياسي والاقتصادي بالقارة، على الاقل مرحليا.