story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

علمانية الفقيه وعلمانية المؤرخ

ص ص

عبارة قصيرة تلفظ بها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، المؤرخ والروائي أحمد التوفيق، خلال جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس النواب يوم الاثنين 25 نونبر 2024، اعتبر فيها المغرب علمانيا، كانت كافية لإطلاق شرارة نقاش واسع.
حاول الوزير في تصريح لاحق أدلى به للزميلة “هسبريس”، توضيح سياق كلامه الذي روى فيه جزءا من حديث جمعه بوزير الداخلية الفرنسي بمناسبة الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمغرب، وقال إنه ردّ على عبارة الوزير الفرنسي “العلمانية تربككم” بالقول إن المغرب علماني بمعنى أنه لا إكراه في الدين.
لكن لا يبدو أن توضيح السياق والشرح الإضافي قد نزعا شرارة هذا النقاش الذي استحضر موقع الدين من الدولة ومسؤولياتها تجاهه.
فالحديث عن العلمانية في خطاب “الفقيه” يثير تساؤلات حول المفهوم نفسه، ومدى إمكانية تأويله وتطويعه بما يتماشى مع الخصوصية المغربية، التي تقوم على نظام سياسي يجمع بين الشرعية الدينية والتعددية السياسية.
فالعلمانية في سياق التصريحات التي أدلى بها التوفيق، لا تشير إلى العلمانية الغربية الصارمة التي تفصل تمامًا بين الدين والدولة، بل إلى “حرية التدين” و”لا إكراه في الدين”، أي أنه حاول أن يؤكد على بعد جوهري في الفكر الإسلامي ذاته، الذي يدعو إلى حرية الاختيار.
لكن هذا لا يمنع من طرح السؤال هل نحتاج في المغرب إلى العلمانية؟ أو إلى علمانية ما، بشكل من الأشكال؟
لا شكّ أن الوزير أحمد التوفيق، وهو مؤرخ في الأصل، يرى العلمانية كنتيجة لمسارات تاريخية، خلافا ل”الفقيه” الذي يمكن أن ينظر إلى العلمانية من زاوية تأويل النصوص وموقع الدين في المجتمع.
وبالعودة إلى التاريخ المغربي الحديث، نجد أن العلاقة بين الدين والدولة لم تعرف انفصالا صارما كما في التجربة الفرنسية أو التركية.
على العكس، كان الدين دائما جزءا لا يتجزأ من المشروعية السياسية، بدءا من الدولة الإدريسية التي كان أساسها دينيا (بيعة)، ومرورا من الدولة المرابطية التي جمعت بين الدعوة الدينية والجهاد، وصولا إلى النظام الملكي الحالي الذي يقوم على إمارة المؤمنين.
والملاحظ من هذا المنظور التاريخي أن الدين في المغرب لم يكن أداة للهيمنة المطلقة للدولة، بل كان هناك دائما توازن بين السلطة المركزية والطرق الصوفية والعلماء، الذين لعبوا أدوارا اجتماعية وسياسية هامة.
هذا التوازن التاريخي يجعل الحديث عن العلمانية في المغرب مختلفا، لأنه يتطلب تفكيكا دقيقا لهذه العلاقة التشاركية بين الدين والدولة، بعيدا عن السياق الأوربي-المسيحي الذي يتسم بصراعات دينية دموية.
ويكشف هذا الجدل المتصاعد أن الدين يظل واحدا من القضايا الأكثر حساسية وتعقيدا في المغرب. فبمجرد أن تحدث الوزير عن “العلمانية” في سياق حديثه مع وزير الداخلية الفرنسي، تحولت كلماته إلى مادة دسمة للنقاش العام، تتناقلها وسائل الإعلام، وتثير ردود فعل متباينة بين التأييد، والرفض، والاستفهام.
هذا التفاعل السريع والمكثف يعكس طبيعة الرهانات الكبرى المرتبطة بموقع الدين ودوره في النظام السياسي والاجتماعي المغربي، في الوقت الذي يسارع البعض إلى التقليل من أهميته ومحاولة تجاوزه كما لو كان مسألة تدبيرية عادية.
واضح أن المغرب ليس دولة علمانية بمعناها الفرنسي الصارم، لكنه أيضا ليس دولة دينية بالمفهوم الثيوقراطي. إنه نموذج يمزج بين الدين والسياسة، ويستند إلى تقليد مؤسساتي يمثل فيه الملك أمير المؤمنين، رمز وحدة الأمة وحارس الكليات الأساسية للدين.
والنقاش حول المسألة الدينية والدولة في المغرب ليس ترفا فكريا، بل هو قضية ترتبط برهانات سياسية واجتماعية كبيرة. الدين في المغرب ليس مجرد جانب من الهوية الثقافية، بل هو أيضا مصدر أساسي للشرعية السياسية والاستقرار الاجتماعي. وتعدّ مؤسسة إمارة المؤمنين الضامن لهذا التوازن، حيث توفر إطارا يحمي الهوية الإسلامية للمغاربة مع احترام التنوع وحرية المعتقد التي يكفلها الدستور.
هذا التوازن، رغم أهميته، يواجه تحديات مستمرة. فمن جهة، هناك حاجة إلى الحفاظ على دور الدين كعامل موحد للأمة؛ ومن جهة أخرى، هناك ضغوط داخلية وخارجية للتعامل مع قضايا معاصرة تتطلب قراءة جديدة للعلاقة بين الدين والدولة، بما يتماشى مع متطلبات الحريات الفردية والتعددية.
وتتحمّل الدولة المغربية مسؤولية كبيرة في هذا الصدد. فهي ليست فقط حارسة للقيم الدينية، بل هي أيضا مطالبة بضمان عدم توظيف الدين في السياسة بطريقة تؤدي إلى الانقسام أو التطرف. وأي نقاش حول العلاقة بين الدين والدولة يجب أن يُدار بحذر كبير، مع مراعاة الخصوصيات التاريخية والاجتماعية التي تجعل المغرب نموذجًا مختلفا عن غيره من الدول.
تحول تصريحات وزير الأوقاف إلى موضوع للجدل السريع يعكس دينامية خاصة للمجال العام في المغرب، وحاجة كبيرة للنقاش وتداول الأفكار. المغاربة حساسون تجاه قضايا الدين لأنهم يرون فيه ركيزة من ركائز استقرارهم الاجتماعي والثقافي.
هذه الحساسية ليست دائمًا سلبية. فهي تُظهر وعيا مجتمعيا عميقا بأهمية هذه القضايا، كما تعكس انخراطا جماعيا في مراقبة التوجهات الرسمية.
ومع ذلك، فإن سرعة انتقال النقاش من سياقه إلى تأويلات متباينة يمكن أن تكون مؤشرا على هشاشة في إدارة الحوار حول موضوع الدين والدولة. والتصريحات الرسمية حول هذه القضايا يجب أن تكون واضحة ومدروسة، لأنها لا تخاطب فقط الجمهور المحلي، بل أيضًا المتابعين الخارجيين الذين قد يفسرونها بطرق لا تتناسب مع الواقع المغربي.
ما يحتاجه المغرب اليوم هو تطوير نموذج خاص به، يوازن بين حرية التدين والحفاظ على الهوية الإسلامية.
نموذج لا يحتاج إلى أن يُسمى علمانيا أو دينيا، بل أن يكون عمليا ومرنا، بما يحمي الخصوصية المغربية ويعزز الاستقرار الاجتماعي.
والسؤال الكبير الذي ينبغي أن ننخرط جميعا في محاولة الجواب عليه، هو: هل يمكن أن تستمر الدولة المغربية في الاعتماد على الدين كركيزة أساسية للشرعية السياسية؟ أم أن هناك حاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الدين والدولة بما يحترم الخصوصية المغربية ويستجيب لمتطلبات العصر؟
وكيف يمكن للمغرب أن يحافظ على مؤسسته الدينية التقليدية، إمارة المؤمنين، مع تعزيز الحريات الفردية والجماعية؟
وهل يمكن بناء نموذج مغربي خاص لعلاقة الدين بالدولة، يستند إلى تجربته التاريخية بدلا من استيراد نماذج جاهزة من الخارج؟