story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

علاج الدولة بالصدمة

ص ص

منذ الجلسة الحوارية التي جمعتني بأستاذ علم الاجتماع، إدريس بنسعيد، في إحدى حلقات برنامج “ضيف الفنجان” الأخيرة، ظلّت عبارة “الحاجة إلى صدمة” تتردد مثل الصدى في عمق تفكيري.
والطبقات التي تخلّفها هه الحلقات مع توالي ضيوفها، تجعل القراءة العامة للمشهد السياسي الوطني، تغوص أكثر داخل ثقب أسود لا مجال لمزيد من المكابرة لإنكاره.
تجربة هذا البرنامج كما تصوّرناها، كمحاولة لقراءة الحاضر بما يكفي من مسافة وهدوء وبعد عن الجدل والانفعال، تؤكد حاجتنا الماسة إلى رجّة كبيرة توقظنا من سبات لا نعلم سببه، ودون لفّ أو دوران، وكما شاهدت المناضل السياسي والحقوقي الراحل عبد العزيز النويضي ردد في آخر دقائق عمره، فإن الطرف الوحيد القادر على القيام بهذه الرجة، وتحقيق أمنية إدريس بنسعيد بحدوث الصدمة قبل فوات الأوان، هو الملك.
أن تكون النغمة السائدة في المشهد الإعلامي، التقليدي والجديد، مستقاة من معزوفة “العام زين”، لا يعني أن هذا العام سيصبح جميلا بالفعل. بل سيبقى على حاله وما سيتغيّر هو كلفة الاستدراك وثمن الإصلاح.
يبدو المغرب اليوم في صورته العامة، كذلك الشخص المصاب بمرض “الإنكار النفسي” أو “عمى الإدراك الذاتي”، والذي يجعل الفرد غير قادر على مواجهة الحقيقة المؤلمة أو الواقع القاسي، وبدلاً من ذلك يتشبث بأوهامه ويعتقد أنه في طريقه الصحيح.
شهادات ضيوف “ضفاف الفنجان” لا تتطابق ولا تتناقض، بل تتكامل بشكل عجيب. حتى أنني شخصيا فهمت أكثر مع إدريس بنسعيد، ما كان يقصده محمد الساسي عندما اعتبر أن الهامش الذي كان يتيحه “المسلسل الديمقراطي” الذي انطلق في السبعينيات، لم يعد متاحا اليوم، في الوقت الذي يراد لنا أن نشعر بالانتشاء والفخر…
فهمت ذلك أكثر عندما ارتسمت في ذهني تلك الصورة الواضحة لما كان عليه الوضع الثقافي والسياسي في المغرب طيلة عقود الملك الحسن الثاني، من “ممانعة” وصمود كبيرين لجل القامات العلمية والأكاديمية، لدرجة أن ثالوث الدولة العميقة المجسدة في الثالوث الذي فسّره الأستاذ بنسعيد بتفصيل، لم يكن يجد صوتا محترما واحدا في الأوساط الجامعية، ليوظفه في تبرير السلطوية وقتل الحلم الديمقراطي.
كان هذا في العهد الذي يوصف بالرصاص والانتهاكات الجسيمة، بينما اليوم يكاد لا يخرج صوت واحد عن جوقة الترانيم السلطوية الموحدة، حتى أن المثقفين والجامعيين باتوا بين فريقين لا ثالث لهما، مع استثناءات تؤكد القاعدة: صامت ومنساق.
السياسة في مغرب اليوم، كما يقول الأستاذ إدريس بنسعيد، أصبحت محصورة في زاوية ضيقة، لا تتجاوز حدود “طابع البريد” فوق غلاف ظرف رسالة من الحجم الكبير.
الرسالة كبيرة والطابع البريدي صغير ومحاصر في الزاوية، مما يعني انكماش الفعل السياسي الحقيقي أمام هيمنة التكنوقراط، ويوسع الفجوة بين السياسيين والمجتمع فأكثر، ويجعل الخطاب السياسي يتحول إلى شعارات جوفاء لا تصل إلى عمق الشارع ولا تلامس هموم المواطن.
لا يمكننا اليوم أن نخطو نحو دخول سياسي كما لو أن الأوضاع عادية. المشهد السياسي في المغرب بات خاضعًا لسطوة سلطة المال والنفوذ، حيث تُرمى قواعد النزاهة والمساءلة عرض الحائط، وتُغض الأنظار عن تضارب المصالح، لتبقى الديمقراطية مطلبًا مؤجلًا، يُتداول في أروقة السلطة كسلعة تخضع لحسابات الربح والخسارة.
هذا الواقع الذي يتحدث عنه بنسعيد بلغة عالمة مهذبة، يحمل في طياته إشكاليات عميقة. فالتضييق المستمر على العمل السياسي يؤدي وفقا لقوانين الفيزياء إلى “صناعة الفساد صنعا”.
لا يمكننا أن نغمض أعيننا ونتقدّم وننتظر من أي استحقاق انتخابي مقبل نتائج أقلية كارثية، بل قد تضطرنا، إن نحن “حشمنا على عرضنا”، إلى اعتقال ومحاكمة أكثر من العدد الذي نتابع متابعته اليوم.
في سياق إفساد ممنهج للسوق الانتخابية، ستضطر الأحزاب إلى البحث عن “كائنات” تستطيع حصد المقاعد، ولو على حساب القيم والمبادئ. وستتحول الاستراتيجيات الانتخابية إلى سوق مفتوح للمزايدات، وستختفي برامج الإصلاح الحقيقي خلف ستار من الشخصيات التي تفتقر إلى رؤية سياسية، ولكنها تملك المال والقدرة على استمالة الأصوات.
الإمعان في الضغط على مساحة “طابع البريد” في ركن مظروف الرسالة، يجعل السياسة تتحول إلى لعبة مغلقة، يمارسها من يستطيع أن يدفع أكثر، تماما كما يحدث في كازينوهات البوكر.
بينما يبقى المواطن خارج اللعبة، ينظر من بعيد، ويشاهد كيف تُدار الأمور في الكواليس.
لقد فقدت السياسة وظيفتها كفضاء للتفاعل الديمقراطي الحر، وتحولت إلى آلية لإعادة إنتاج نفس الأوضاع ونفس الأفكار، في حين تبقى الفئات الوسطى والأكثر تهميشًا، عاجزة عن فهم ما يجري، وأحيانًا غير مهتمة أصلًا.
هيمنة التكنوقراط تعكس هذا الواقع بوضوح. فهؤلاء الذين يقدمون أنفسهم كخبراء في إدارة الشأن العام، يديرون الملفات كما يديرون شركاتهم الخاصة، يتعاملون مع الأرقام والمؤشرات دون أن يأخذوا في الاعتبار المعاني الأعمق للسياسة. إنهم يجلبون التقنيات والمشاريع الكبرى، لكنها مشاريع لا تجد صدى لها في قلوب الناس، لأنها تفتقد إلى الروح التي تعكس طموحات المجتمع وتطلعاته.
السياسة، في هذه الحالة، تتحول إلى عملية تقنية بحتة، تُصمم من فوق، ولا تأخذ بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي، مهما تدثّرت بالخطابات الرنانة والعبارات المنمّقة.
ما نحن بصدد تكريسه اليوم يجعل الديمقراطية مجرد لمسة “تجميل” لوجه النظام السياسي بدل إصلاحه.
كيف يمكن للديمقراطية أن تزدهر في بيئة تسيطر عليها سلطة المال، وتحكمها مصالح خاصة؟ كيف يمكن الحديث عن دولة القانون، إذا كانت القوانين نفسها تُدار وفق مصالح ضيقة؟
المغرب بحاجة، كما قال الأستاذ بنسعيد، إلى إعادة التفكير في أولوياته، وإلى “صدمة سيكولوجية” توقظ الوعي الجمعي، وتعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة على أسس أكثر عدالة.