عصام واعيس: حَيّ “ميسي المغرب”
“قرر الأمريكان مرّة شن حرب على حيّنا، فأرسلوا في البداية طائرات استطلاع لأخذ صور جوية، وحين بدأت القيادة تتوصل بالصور جُن جنونها واستشاط رئيس الأركان غضبا لعصيان الطيّارين أوامره: طلبتُ منكم التقاطَ صُورٍ لا قصفَ الحيّ! ردّ الطيّارون: سيدي لم نقصفه، وجدناه مدمّرا كما يظهر في الصور!”، هذه نكتة تجري على ألسنة ساكنة حي “ميسي المغرب”، بسيدي سليمان بصيغ مختلفة، أحيانا يكون مصدر القصف أمريكا وأحيانا الروس وأحيانا كائنات فضائية وصَلتها رائحة واد بهت النتنة فقرّرت الانتقام..
حين جاءت الصحافة للحي، في حدود اطلاعي، كأنما دخلت من باب خلفي أو سرداب خفي وتسلّلت منُه مباشرة إلى بيت الطفل عدنان الحجام وأخذت مشاهد البهجة والفرح والامتنان ثم عادت من حيث أتت! خرجت بتقارير تحتفي بظهور موهبة واعدة في حي من أحياء المغرب العميق وانتباه الدولة إلى هذه الموهبة، وانتهت الحكاية..
أفهم أن يتحوّل حي محاصر بأسئلة التنمية المؤجلة وعقود من الخذلان إلى خلفية باهتة في مشهد الرياضة، لكن في بقية المشاهد يجب أن يحتل الصدارة. إذا تظافرت عوامل حميدة على إنقاذ موهبة غضة من قضاء طفولتها في اللعب بين ركام البيوت المخرّبة والطرق المعفّرة ومطارح النفايات والقبور وأعين الكلاب الضالة، فماذا عن البقية؟
لا عيب في رؤية قصة رياضية آسرة في مشهد طفل يهزم الخراب بقدميه ويسجل أهدافا ضد نخبة محلية وجدت في الهشاشة والفراغ والجهل وسائل لبناء معاقل انتخابية حصينة. لا عيب في راوية قصص “الناجين” طالما لا تحجب قصص “المتورطين” في أحجية البؤس.
ماذا عن أتراب “ميسي المغرب” الذين يستنشقون رائحة العفن كل ليلة، ويعيشون في حي لا يتوفر على ملاعب قرب، ولا حدائق، ولا طرق معبدة، ولا هندسة عمرانية واضحة المعالم، ولا بقية من طبيعة تسرح فيها أعينهم الصغيرة، ولا أزقة نظيفة، ولا أي شيء غير القبح ووحش الإسمنت!
لماذا على هؤلاء الصغار تحمل آثار تحويل معلمة طبيعية آسرة هي وادي بهت إلى مستنقع للمياه العادمة (قصة هذا الوادي مشروع جائزة في الصحافة البيئية).
ماذا يتردد في محيط الأطفال بهذا الحي؟ كثير من النباح والصفير والصراخ في الخواء. ماذا بعد المدرسة؟ ربما قطع ضفتي واد تتحلّل في جوفه جثث الطيور المتعفنة والنفايات، أو السباحة فيه من باب المفاخرة بين الأتراب، أو مطاردة الكلاب الضالة أو الركض بين القبور وغيرها من حماقات خطِرة في محيط لا يسمح للطفل باستيعاب العالم واستنفاد حماسه إلا بالجري كثيرا في اتجاهات متضاربة..
أين هذا الواقع من توصيات لجنة النموذج التنموي الجديد؟ ما دور الجماعات الترابية؟ ماذا يفعل المجلس البلدي والمجلس الإقليمي والجهة؟ ولماذا لا تسأل سلطة عليا واحدة السلطة المحلية بسيدي سليمان أسئلة من قبيل: من حوّل هذا الحي وأحياء أخرى معه إلى مناطق نفوذ محصنة؟ من يتعامل بفلسفة المافيات ويحكم على أحلام جيل كامل بالفناء والجمود؟ لماذا توقفت جرّافات الإصلاح هنا (وفعليّا توقفت جرافات كانت أتت لتعبيد طريق بالحي)؟ في ما تذهب ضرائب وخيرات هذه المدينة وإلى من؟ وإلى متى؟ لماذا لا يتبقى من الأماني والوعود كلّها سوى نعيق الغربان وأصوات الكلاب..
النخب المحلية في المغرب ترفل في ظل ظليل جرّاء عوامل عديدة من بينها انشغال صحافة المركز بقضايا المركز، وضعف الكتابة المضادة، الكتابة عن الهامش ضدا في المركز، وهشاشة الصحافة الجهوية وانهمار حروفها – في حالات – على حقول أصحاب الوجاهة والنفوذ والمال، على غرار بعض حالات الصحافة الوطنية. وفي صحافة الحقول هذه القصة الإنسانية تخبو لصالح القصة السياسية، والقصة السياسية في عمقها فارغة من أي رسالة وجودية، نوع من تدوير هواجس المتنافسين على حيازة السلطة والمال.. أو السلطة بالمال.. أو المال بالسلطة.. في قوالب لغوية جامدة.. ومعارك لا تنتهي.. أو لا تنتهي أبدا في مصلحة المعذبين في الأرض!
هذا الرأي محاولة للتركيز على “المغرب” في عبارة “ميسي المغرب”، نوع من الأمل العبثي في أن يحدث شيء ما ينتشل “القصف” من مخيال الساكنة، وأقران عدنان من الضياع.