story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
مجتمع |

“عشتُ شعور الموت”.. القصة الكاملة لرحلة الطبيب المغربي بوعبدالله إلى شمال غزة

ص ص

لم ينتظر فترة تكفيه ليأخذ قسطاً من الراحة، بعد أشهر قضاها تحت صواريخ الطائرات وبين مشاهد الدمار والموت الذي يحوم وسط أحياء ومدن غزة لما يقارب السنة، يعود البروفسور يوسف بوعبدالله إلى قسم جراحة الأطفال الذي يترأسه بالمركز الاستشفائي الحسن الثاني في مدينة فاس ليزاول مهام متابعة مرضاه من الأطفال المغاربة.

داخل غرفة العمليات وبينما يمسك المشرط منهمكاً في إجراء جراحة لطفل مصاب بسرطان الكلى، تطرق ذهن البروفسور بوعبدالله ذكرى أول حالة عاينها حين وصوله إلى قطاع غزة وهي واحدة من حالات خلفت أثراً عميقاً في قلبه، إنها الطفلة سلمى التي كانت تعاني من نفس المرض، متسائلاً: “كيف حالها اليوم؟” ليمسك هاتفه بعد انتهاء العملية، ويراسل من يتكفل بها هناك حتى يطمئن.

هكذا حال الطبيب المغربي بعد يومين فقط منذ وطأت قدماه مطار محمد الخامس بالدار البيضاء قادماً من غزة، التي كان يصادف المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي بضعة مقاطع فيديو تُنشر منها بين الفينة والأخرى، وتوثق لحظات إنسانية للطبيب بين أفراد وأطفال الشعب الفلسطيني في القطاع الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية منذ أكتوبر 2023، دون أن يتخيل الظروف التي عاشها البروفسور يوسف بوعبدالله قبل وأثناء رحلته إلى هناك.

الرحلة إلى غزة

قبل الوصول لقصة الطفلة سلمى، نُسافر مع البروفسور المغربي في رحلته إلى قطاع غزة منذ راودته فكرة أن يعيش هذه التجربة الإنسانية ويؤدي واجبه المهني في خدمة ضحايا حرب متواصلة راح ضحيتها ما يفوق 40 ألف شهيد، وهو الذي سبق له أن عاش تجربتين سابقتين خلال حربي 2009 و2012 لا يبدو أنهما تشبهان الأخيرة إطلاقاً.

ظل يوسف لمدة 8 أشهر يطرق أبواب الجمعيات الحقوقية وسفارات دول بينها المملكة الأردنية الهاشمية والإمارات العربية المتحدة، أملاً في أن يُفتَح بابٌ يتمكن عبره من الوصول إلى قطاع غزة لأداء مهمته الإنسانية، لكن دون جدوى، قبل أن تحل البشرى من زميل داخل القطاع يقول له: “ستكون بيننا قريباً” وبينما يحاول استيعاب النبأ الذي ظن أنه مزحة من حجم الإحباط الذي عاشه طيلة الثمانية أشهر أحاله الطبيب الفلسطيني على جمعية تُسمى “الجسر الفلسطيني الأمريكي” يترأسها البروفسور أكرم مشتهى، ليتواصل في النهاية مع هذا الأخير منتظراً الخبر اليقين.

طلب مشتهى من البروفسور المغربي الوثائق اللازمة للتنسيق مع الجهات المتدخلة في عملية دخول الأطباء إلى قطاع غزة والتي على رأسها منظمة الصحة العالمية، لتتم الموافقة أخيراً على ملف يوسف بوعبدالله، لكن ذلك تزامن مع إغلاق معبر رفح ليتأجل السفر إلى أن تم فتح الباب الثاني عن طريق جسر الملك حسين في الحدود الأردنية الفلسطينية، وهنا كان على الطبيب المغربي الحسم في قراره باعتبار أنه على غير المعتاد سيتم ترتيب دخلوهم عن طريق الأراضي المحتلة وليس المعبر الفلسطيني المصري الذي يفضل الأطباء العرب الذين يرفضون التطبيع الدخول عبره تفادياً للاحتكاك مع جنود الاحتلال في المعاملات الإدارية ومراكز التفتيش.

المسألة إنسانية لا يوجد خيار آخر، بدأت رحلة البروفسور المغربي من الدار البيضاء إلى الأردن أولاً عبر إسطنبول، وبعد أن كان عدد الأطباء الذين تمت الموافقة على ملفاتهم 10 تقلص هذا الأخير ليصبح 5 أطباء، ليواصل هؤلاء رحلتهم في صباح 25 يونيو إلى العاصمة الأردنية عمان، وهناك تم رفض بقاء طبيبين آخرين، ولم يصل إلى الحدود الفلسطينية سوى 3 أطباء بينهم يوسف بوعبدالله البروفسور المغربي ويحيى الشيخ أمريكي من أصول باكستانية وخالد بن بوطريف فرنسي من أصول جزائرية.

عبر الأطباء الثلاثة نقطة التفتيش الإسرائيلية داخل فلسطين المحتلة بعد ساعات من العناء والمشقة والبحث الأمني، ومن هناك استقلوا حافلة في اتجاه معبر كرم أبو سالم الحدودي مع قطاع غزة، دون أن يُسمَح لهم بالتوقف في أية محطة بالطريق، يقول بوعبدالله: “قطعنا فلسطين التاريخية من شمالها إلى جنوبها، مررنا في طريقنا بالقدس دون أن تكتحل أعيننا برؤية المسجد الأقصى وقبة الصخرة، كما رأينا المستوطنات في قمم التلال والجبال وقد تحولت إلى مدن”.

“أشعر بأن العالم غير موجود، وأنا الوحيد من يمشي على هذه الأرض من فرط الفرح لحظة عبوري معبر كرم أبوسالم إلى غزة. إنها أسعد أوقاتي”. يقول البروفسور المغربي وهو يصف ساعة دخوله قطاع غزة، وهناك تم تسليم الأطباء الثلاثة إلى سيارة تابعة للأمم المتحدة أمّنت وصولهم إلى المستشفيات التي يباشرون مهامهم فيها.

طريق رفح ليست هي نفسها التي عهدها بوعبدالله قبل سنوات، لقد تغيرت معالمها كثيراً، وكذلك شأن كل الطرق والبنيان، الدمار هائل يميناً ويساراً، استمر البروفسور المغربي في طريقه مندهشاً من حجم الأضرار التي خلفها جيش الاحتلال منذ اجتياحه غزة، فرغم ما تنقله صور التلفزيون من مشاهد مروعة يبدو أن هول الصدمة مختلفٌ على أرض الواقع.

وصل يوسف بوعبدالله إلى خانيونس، حيث بدأ يصادف مظاهر الحياة والمواطنين وأسواق صغيرة يبتاعون ما يحتاجونه منها، وقضى ليلته الأولى في مستشفى شهداء الأقصى الذي بمجرد وصوله إليه علم بوجود حالات تحتاج إلى تدخل جراحي وأخرى مستعصية، ومن بين هذه الحالات تواجدت الطفلة سلمى المصابة بسرطان الكلي.

أطفال يوسف في غزة

كان أمام البروفسور وقت ضيق ليستأنف رحلته في الصباح الباكر من الجنوب إلى الشمال، وهو ما تطلب تدخلاً عاجلاً في الليل لإجراء عملية استئصال الكلية المصابة من جسد الطفلة سلمى، لم يسمح له ضميره بالذهاب وتركها وراءه على تلك الحال، ويشرح خطورة وضعها: “إنه أحد السرطانات الفتاكة التي تقتل الأطفال، يكون خلف جدار البطن”، ويضيف: “أظن أنه في تاريخ البشرية لم يجر استئصال سرطان كلوي ليلاً. إنها جراحات الحروب”.

السعادة تغزو الليلة الظلماء للطاقم الصحي من أطباء وأطباء تخدير وممرضين، والبِشر على محياهم جميعاً، والفرحة أكبر في قلب البروفسور المغربي يوسف بوعبدالله الذي أشرف على العملية. لقد تم استئصال سرطان سلمى في النهاية، “فرحتُ أيّما فرح حينها، كانت أسهل من السهل بفضل الله” يقول متهلّلَ الوجه.

أصوات صراخ ونداءات وجلبة تقترب من ناحية باب المستشفى، يبدو أن الإنسان هنا لا يملك حتى وقتاً وجيزاً للفرح، انفجر صاروخ في مكان ما بالمنطقة وأصابت شظية منه بطن طفلة تبلغ من العمر 13 عاماً، ما تطلب التدخل في الحين بعملية استعجالية، وبمجرد ما باشر البروفسور بوعبدالله عمله انفجرت “نافورة من الدماء” كما وصفها، ليكتشف أن الطفلة تالا أصيبت بجرح عميق في الكبد قبل أن يتدخل ويتم إيقاف النزيف لتعيش الطفلة، “كنتُ أسعد الناس على هذا الكوكب بنجاح عمليتَي سلمى وتالا”.

في الصباح الباكر اطمأن الطبيب على الطفلتين، إنهما في تحسن لكن ظروفهما سيئة جداً، سلمى كانت تنام على الأرض ولم يكن هناك سرير، يقول البروفسور: “لم أر هذا طوال حياتي كلها، أن يصبح مريض سرطان بعد عملية جراحية في الليل، جالساً في اليوم التالي على فخد أمه” في الوقت الذي من المفترض أن تعيش فيه فترة نقاهة مستريحة على السرير، ليس لسلمى مكان تنام فيه هنا فكل الزوايا ممتلئة، حتى الممرات بين الأقسام والسلالم، وفي كثير من الأحيان يتوجب على المار العبور بين حشود الناس كي يصل إلى نقطة ما.

أما تالا فكانت “أوفر حظاً، لها مكان في قسم العناية المركزة”، يُعبّر البروفسور عن ارتياحه لعافيتهما “بينما تسألان هل نستطيع أن نأكل، لم أكن مهتماً بهذه المسألة لفرط ساعدتي ببقائهما على قيد الحياة!”.

وبعيداً عن خانيوس، يحكي البروفسور يوسف بوعبدالله قصص حالات خلفت أثراً عميقاً بقلبه في شمال قطاع غزة، والتي من بينها سلمى ثانيَة كنيتها “عجور” عمرها 3 أشهر، فقدت والديها وأعمامها في قصف إسرائيلي وبقيت وحيدة تحت الأنقاض مدة 12 ساعة، وعندما وصلت إلى مستشفى كمال عدوان حيث يتواجد الطبيب المغربي كانت في حالة صعبة بعد ساعات من الجوع والعطش، يقول: “مباشرة عقب إخضاعها للإنعاش طُلِب مني إجراء عمليات جراحية لها. كانت تعاني من جروح كبيرة في رجلها اليسرى كما فقدت أجزاء من جلدها ولحمها”، وبعد انتهاء عمل الطبيب فوجئ بجراح سلمى عجور وهي تندمل “بشكل غريب وعجيب في أيام قليلة، وبعد أسبوعين أو ثلاث اختفت الجراح وكأنها لم تكن، لكنها كانت أقسى لحظاتي، كاد عقلي يخرج من مكانه فور وضعها بين يدي”، يقول بوعبدالله.

وقصص الحالات مثل سلمى كثيرة، فمنهم من أدى القصف إلى بتر قدمه، ومنهم من اخترقت الشظايا بطنه فتفرق بعض لحمه، كما منهم من وصل إلى الطبيب المغربي وهو على حافة الموت، دون الحديث عن الشهداء الذين يرتقون بشكل يومي أمام عينيه.

جوري طفلة أخرى لم تفارق حالتها ذهن الدكتور يوسف بوعبدالله، فذات يوم من أيام حرب غزة طُلب من الدكتور على الساعة السابعة صباحاً التدخل لعلاج الطفلة التي تعاني من كسور عديدة على مستوى عظم الحوض ونزيف في المهبل، وجروح على مستوى الوجه جراء قصف أودى بحياة ابنَي عمها وأرسل شقيقتها إلى مستشفى الإندونيسي، لتجري عملية جراحية هناك بالتزامن مع إجراء العملية لجوري من قبل الطبيب المغربي، الذي استأصل داخل الغرفة ذاتها ورماً من جسد طفلة أخرى تدعى رهف ليحول دون تحوله لسرطان خبيث بعد معاناة استمرت عشرة أشهر.

في الشمال: عشتُ شعور الموت

في هذا المكان بقدر ما عاش بوعبدالله لحظات الألم والأمل بين الفلسطينيين داخل المستشفيات وخارجها، عاش لحظات فردية أحس فيها بما سمّاه “شعور الموت”. يقول متحدثاً عن بعضها “كنت أشعر بذلك عندما أسمع دوي أصوات المدافع والطائرات والصواريخ، ونظراً لكون أن ذاكرتنا العميقة لا تدرك أياً منها كان لا بد لي من بضعة أسابيع حتى أعتاد على الوضع”، كانت الصواريخ في بعض الأحيان لا تفصلها عن المكان حيث يقيم البروفيسور المغربي عرض شارعين أو أزقة قليلة، يضيف “كنت أستيقظ في جوف الليل بدقات قلب متوترة، وعندما أسمع الأبواب والنوافذ تهتز أظنه تيار الهواء، في حين أن حركتها كانت نتاج ضغط القصف في الجوار”.

يبدو أنه خلف تلك المقاطع التي يظهر فيها البروفسور بابتسامته الدافئة، لم يكن في منأى على أن يعيش الهلع والخوف ذاته الذي ينتاب الفلسطينيين لكنه كان يحاول تثبيت نفسه في ذلك الموقف قائلاً “الموت حق والأجل يحمي من الموت”، ويحكي أن الوضع يكون أصعب أثناء غارات القصف بالليل عندما يكون الناس كلهم في سكون.

الطريق إلى هناك بحد ذاتها لم تكن سهلة، نعود مع يوسف بوعبدالله إلى خانيونس من حيث انطلقت رحلته إلى شمال قطاع غزة مباشرة عقب الاطمئنان على حالة تالا وسلمى، وأخذِ ما سيحتاجه من الزاد الذي لم يدرك أهميته إلا بعد الوصول إلى تلك المنطقة التي تعيش مجاعة منذ أشهر.

يصل بوعبدالله إلى حاجز نيتساريم، حيث توجد كاميرا وحائط يقف أمامه رافعاً يديه مع جواز السفر، حينها إما سيُسمَح له بالعبور إلى الشمال أو يُمنَع من ذلك، تمكن البروفسور المغربي من العبور ليواصل رحلته في طريق طويل من نيتساريم ترافقهم طائرة مسيرة صغيرة تراقب وسائل النقل التي كانت تقلهم، يحكي البروفسور: “حال الطريق كانت أشبه بيوم القيامة، لا ترى فيها بنياناً قائماً أو منزلاً بمواصفات بيت، البنية التحتية مخربة بشكل مهول، دمار لم أشاهده في حياتي إلا عبر أفلام الرعب”.

بعد حين بدأت شبه معالم للحياة تلوح بالأفق، وبدأ الطبيب يلمح المواطنين يتجولون. يسمع صوتاً أمامه؛ “سمكة سمكة!” كان أول ما يصادف عند وصوله إلى وجهته طفلٌ يقود دراجته الهوائية وبيده سمكة اصطادها من شاطئ في شمال غزة، لقد فرح بها أشد الفرح، يقول الطبيب: “لم تكن بالصغيرة ولا الكبيرة ولكني فهمت فيما بعد أن ما اصطاده كان له أكثر من قيمة”.

بمجرد وصول الطبيب المغربي إلى مستشفى كمال عدوان استقبله طاقمه قبل إرشاده إلى البيت الذي سيعيش داخله “شعور الموت” جراء القصف الإسرائيلي المتواصل على المنطقة، لأكثر من شهرين و10 أيام منذ وصوله إلى هناك.

ومن أعداد الحالات التي استقبلها بوعبدالله فور مباشرة العمل، بدا أن مدة الحرب كلها لم يتم إجراء عملية جراحة أطفال واحدة في شمال القطاع قبل مجيئه، كما أنه لم يتم استقبال الحالات المبرمجة منذ أكثر من سنة قبل وأثناء الحرب، ليتم استئنافها جميعاً تحت إشرافه بموازاة العمليات الاستعجالية القليلة باعتبار أنها متواصلة بشكل أساسي 24/24 بالمستشفيات المجاورة مثل المعمداني والأندونيسي، وهذه الأخيرة كانت بدورها ترسل إلى يوسف بوعبدالله وفريقه حالات الأطفال التي تتطلب إجراء عمليات في المساء والليل، والتي تعرف من خلالها على قصص سلمى وجوري ورهف.

أما في حصة العيادة الخارجية التي تبدأ على الساعة الثالثة بعد زوال كل يوم ويكون فيها اللقاء مع الأسر، يصادف بوعبدالله من القصص أكثر مما يسمع داخل المستشفى، منها قصة فتاة قُصف منزلها فانتُشِلت من تحت الأنقاض، ثم يُقصف البيت الثاني حيث نزحت لتُنتشل مرة أخرى من تحت أنقاضه، ثم تنزح مرة ثانية فتُقصف مرة ثالثة، يتساءل الطبيب المغربي: “كيف لإنسان أن يقصف ثلاث مرات ويخرج من تحت الأنقاض ثلاث مرات ويستمر في الحياة؟”، ويقول: “هذه هي عائلات غزة ومعاناتها، وهذه هي أيامنا في مستشفى كمال عدوان”.

وبعد 60 يوماً قضاها الطبيب المغربي يوسف بوعبدالله بين مستشفيات شمال القطاع، غادر البروفسور غزة في أجواء مؤثرة محملاً بالقصص والمشاعر مخلفاً وراءه أثراً طيباً، ومصطحباً دروساً وعبر أهمها ما تكرر أمامه في حالات إصابات عدة من مستشفى شهداء الأقصى في خانيونس إلى كمال عدوان في الشمال، “هذا الشعب الذي يقاوم سيعيش شاء من شاء وأبى من أبى”، تماماً مثلما قاوم العديد من أطفاله الجراح والأورام ليبقوا على قيد الحياة.