story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

عرائس الفقر

ص ص

قبل نحو عام من الآن، شنت السلطات الأمنية في ولاية “آسام” الهندية، حملة اعتقالات ومداهمات وتمشيط، اعتقلت خلالها قرابة ألف شخص، بعدما كانت حملة سابقة قد أدت إلى اعتقال أكثر من أربعة آلاف شخص، كلهم رجال، تهمتهم أنهم تزوجوا بفتيات قاصرات أو زوجوا بناتهم قبل بلوغهن سن الرشد.
رغم طابعه الغريب والطريف، إلا أن هذا المشهد ليس بعيدا عن النقاش الدائر حاليا حول التعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة، حيث راج منذ الأيام الأولى لانطلاق عمل اللجنة الملكية المكلفة بإدارة التشاور الوطني، أن المنع الكلي لزواج القاصرات من النقط المحسومة سلفا، رغم أن الرسالة الملكية التي أحدثت اللجنة لم تتضمن أي توجيه بهذا الخصوص.
إذا أضفنا إلى ذلك الدعوات التي أطلقها البعض، يتقدمهم وزير العدل، لتجريم هذا النوع من الزواج، تجعلنا لا نبالغ حين نتخيل مشهد اقتياد رجل مغربي نحو السجن، لأنه زوّج ابنته أو تزوّج بفتاة قاصر.
لنتذكر أولا أن مدونة الأسرة الحالية تحدد سن الزواج القانوني في المغرب في 18 سنة للجنسين معا، وتترك باب الاستثناء مفتوحا للزواج قبل هذا السن، شريطة الحصول على إذن قضائي.
وضع لا يختلف كثيرا عن أغلب الدول التي يمكننا المقارنة معها، وتحديدا الدول العربية والأوربية.
وتحصي المنظمات الأممية أكثر من 14 مليون فتاة قاصر تتزوج سنويا، وأغلب الدول تبيح الزواج قبل بلوغ سن 18، مع اختلاف في الشروط والضوابط، كما هو الحال في أغلب الدول الأوربية، حيث ينبغي الحصول على إذن من وكيل الجمهورية في فرنسا وبلجيكا، وإذن قضائي في إيطاليا، بعد التأكد من النضج النفسي والبدني للقاصر، وبلوغه 16 عاما كسن أدنى، كما هو الحال في إسبانيا أيضا.
بل إن بعض الدول الأوربية التي تمنع كليا زواج القاصرين، مثل سويسرا، تسمح بتوثيق هذا الزواج حين يتم خارج البلاد، بعد التأكد من قبول القاصر بشكل طوعي وعدم إرغامه على الزواج.
الأمر نفسه في جل الدول العربية، حيث يختلف سن الأهلية للزواج بين 19 عاما في الجزائر و20 عاما في ليبيا، و17 سنة للإناث مقابل 20 سنة للذكور في تونس… وتبيح أغلب الدول العربية الزواج قبل السن القانوني، ودون تحديد سن أدنى لا يمكن النزول تحته، باستثناء العراق والأردن حيث لا يمكن تزويج من هو دون سن الخامسة عشرة. فيما تتميز التجربة الإماراتية باشتراط موافقة مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل، لتزويج شخص يقل عمره عن 18 سنة.
هل يعني ذلك أن علينا تزكية وتشجيع الزواج قبل سن الرشد القانونية؟ كلا، فباستثناء المبررات القيمية والأيديولوجية، لا توجد أية معطيات علمية تفيد بوجود انعكاسات إيجابية لهذا الزواج، إلا العنصر الديمغرافي الذي يمكن أن يعتبره البعض هدفا لتكثير سواد الأمة…
يتسم هذا النوع من الزواج بخاصية أساسية تجعله ينطوي على تمييز واضح تجاه المرأة، لكونه يشمل الإناث بالدرجة الأولى. وفي سياقات اجتماعية تعاني فيها النساء أصلا من التهميش والحصار مهما تسلقن المناصب والمسؤوليات، فإن زواج القاصرات يعني تعطيل جزء من طاقات المجتمع وحرمان هذه الفئة من فرص التعلم والعمل وتحقيق الذات ومن ثم الإنتاج وخلق القيمة الاقتصادية…
كما أن الزواج المبكر يضاعف خطر الوفاة أثناء الولادة ويعيد إنتاج الهشاشة بما أن الأمر يتعلق بأم غير متعلمة ومفتقدة للحد الأدنى من التمكين الاقتصادي والقدرة على مواكبة العصر في تربية الأبناء…
لكن هناك معطى دقيقا ينبغي الالتفات إليه: هل يتسبب الزواج المبكر في انقطاع الفتيات عن الدراسة ويحول دون ولوجهن سوق الشغل وتحقيق ذواتهن كما يتمني كل مغربي ومغربية لابنته؟
المعطيات الصادرة عن دراسة ميدانية لرئاسة النيابة العامة، تخبرنا أن أكثر من 86 في المئة من الفتيات اللواتي يتزوجن قبل بلوغ 18 سنة، هن منقطعات أصلا عن الدراسة، وأغلبهن (74 في المئة) انقطعن في مرحلة الابتدائي، وأكثر من 13 في المئة لم تلتحقن أصلا بالمدرسة، و0.35 في المائة فقط تزوجن وهن تتابعن دراستهن.
أي أن الذي يحرم بناتنا من حقهن في التعليم هو الحكومة وليس العريس المراد سجنه، وما يحمل الآباء والأمهات على تزويج بناتهن هو الفقر والعوز وليس العادات والثقافة كما يزعم البعض، لأن أعلى نسب هذه الزيجات تتم في مدن وحواضر كبرى، حيث قبلنا مؤخرا وفي عهد وزير تقدمي، بإباحة تشغيل القاصرات كخادمات في المنازل، ونريد أن نقنع أنفسنا اليوم أننا لا نقوى على تحمل منظر تزويج فتاة في السن نفسه الذي نقبل بتشغيلها فيه.. يا له من نفاق.
صحيح أننا عشنا فترة “انفجار” في أرقام تزويج القاصرات، والغريب أن الرقم القياسي (39 ألف) سجل في سنة “الربيع العربي وثورات الشباب، أي 2011، لكن المعطيات الإحصائية تبيّن أن الظاهرة تأخذ منحى التراجع المستمر منذ 2014، وهو ما يؤكد فعالية التدرج وإمكانية عقلنة اللجوء إلى هذا الاستثناء في انتظار قيام الدولة بواجباتها التنموية.
بدل استلهام النموذج الهندي المضحك، هناك فوقنا في أوربا وتحتنا في إفريقيا جنوب الصحراء نماذج ودروس فعالة في الحد من تزويج الفتيات قبل الأوان: في أوربا حققوا ذلك عبر التنمية والتمكين من الحقوق الأساسية، وفي إفريقيا جنوب الصحراء حيث تسجل أعلى نسب هذا الزواج، تخبرنا تقارير المنظمات الدولية أن الحل السحري الذي تم تجريبه هناك ونجح، هو التعليم، وليس حظر زواج سيستمر بالفاتحة وغير الفاتحة وسنجد أنفسنا نشرّع لمجتمع غير الذي نطبق فيه القانون.
ألا يبدي بعض المسؤولين هياما كبيرا بتوصيات وتقارير البنك الدولي؟ ابحثوا وستجدون وثيقة يقول لكم فيها: أدخلوا الفتيات إلى المدارس كي تحدوا من زواجهن المبكر.