عذرا غزة!
مهما حاولنا أن ننشغل ونتغافل ونداري، نستيقظ في النهاية على صور الجثث والأشلاء وننام على أصوات الثكلى والمفجوعين والموتى.
مجموعة صغيرة من بشر مثلنا، يشبهوننا، يعدون منا وعلينا، يغلق عليهم العالم منافذ البر والبحر والجو، ليبادوا أمام أعيننا. صحيح، نشعر بكثير من الفخر والعزاء ونحن نتابع بيانات أبو عبيدة عن منجزات المقاومة وانتصاراتها وقنصها لرؤوس الغزاة المحتلين، لكن دعونا نشعر ببعض الخزي أيضا. لنجرب النظر إلى وجوهنا في مرآة الحقيقة التي نكابر لإنكارها.
لا نحتاج إلى انتظار تحقيقات دولية ولا مطالعة وثائق ولا سجلات ولا فتح مقابر… كل شيء يتم بحضورنا وأمام أعيننا. لا مجال للهروب ولا المكابرة.
من لم يمت بنيران القنابل والرصاص وهلم معادن وخلطات كيميائية قاتلة، يموت بالجوع والمرض والبرد.
تخرج الأم من الكوخ لتحضر جرة ماء مالح من البحر وهي لا تدري أتعود إلى طفلها أم تخلفه يتيما.
ينام الطفل متضورا بالجوع على أمل العثور غدا على أوراق أشجار خضراء مغذية يسكت بها جوعه، فتأتيه قنبلة حارقة فوق طبق من رصاص وهو في “سريره” البارد.
أي نعم، وكل ذلك بحضورنا ومباركتنا.
تصوّروا أن كل ما بات يخشاه الفلسطيني المحاصر اليوم، هو أن تنقطع الاتصالات عن غزة وتنطفئ الكاميرات ويكف العالم عن مشاهدة ما يجري.
الموت لم يعد شبحا ولا كابوسا ولا تهديدا، فهم يلتحمون معه ويعانقونه ويحضنونه. لهذا تجدهم يقبلون الدبابة من مسافة الصفر. لكنهم يخشون الموت في الظلام وأن يطويهم النسيان فتنسى قضيتهم.
لهذا باتت الكلمة والصورة وأداء الشهادة بالنسبة إليهم أهم من اللقمة ومن السقف ومن الزاد.
هذا الانسان الذي يبهرنا وهو يتقدم بنعله البلاستيكي المتواضع نحو دبابة الميركافا ليهديها عبوة في أعياد الميلاد، يمنحنا معها ألف سبب للشعور بالخزي والعار. “معركتنا جميعا تدور في غزة”، يقول صديقي الفلسطيني الذي استقر به المقام في دولة عربية. “هل كان ليحصل ما يجري اليوم في غزة لو لم يكن الاستبداد مسيطرا في محيطها العربي؟” يسأل صديقي باستنكار يصيب بوخز الضمير.
فلسطينيو غزة لا يعانون ظلم الغرب ووحشية إسرائيل فقط، هم يموتون أيضا وفي كل يوم بسبب خذلان وتقاعس بل وتواطؤ الإخوة والخلان.
تحدثت مؤخرا إلى صديق فلسطيني، وهو ممن عاشوا محنة اللجوء والمخيمات والتشرد، لكنه أيضا منبهر ومتفاجئ مثلنا. “هؤلاء الذين يواجهون الدبابات والطائرات اليوم هم من مواليد ما بعد الألفين يا أخي، إنهم أبناء الحصار والعدوان والخذلان” يقول صديقي الفلسطيني.
هؤلاء الأبطال لم يعرفوا في حياتهم سوى غزة، جلهم لم يبصر يوما ضوءا إلا تحت سماء غزة، لم يتجاوزوا يوما أسوار غزة، أغلقت في وجوههم جميع الاتجاهات فلم يتبق لهم سوى باطن الأرض (بالأحرى بطنها)، حفروا الأنفاق بأيديهم، بأظافرهم، بحثا عن منفذ نحو صدر العدو ليغرسوا فيه شحنة من غصب وألم.
“الكثير من هؤلاء الأولاد ماتوا، بل العدوان وقبل الطوفان وبعيدا عن الأضواء أثناء حفر الأنفاق” يضيف صديقي الفلسطيني. بالطبع كيف لا يموتون وتهم يبنون شبكة متاهات ضخمة يضيع فيها الجيش “الذي لا يقهر”، وهم لا يملكون سوى أظافرهم كأداة للحفر.
يستغرب صديقي الفلسطيني كيف يخرج البريطانيون والأمريكيون رفقة أطفالهم في درجات قاسية من البرد، للاحتجاج والتظاهر، وترفع جنوب أفريقيا دعوى في محكمة العدل الدولية، وتقطع دول أمريكا اللاتينية علاقاتها بإسرائيل، ويعجز كثير من إخوة الفلسطينيين عن أضعف الايمان.
أخبرت صديقي الفلسطيني أن حالة من تبلد المشاعر والأحاسيس عمّت مجتمعاتنا في جميع جوانب حياتها، ولا يقتصر الأمر على القضية الفلسطينية. استغرب صديقي الفلسطيني حتى فغر فاه حين أخبرته أن أطفالنا في المغرب لم يدرسوا تقريبا قط هذه السنة، ولا شيء يقلق راحتنا في ذلك.
هذا الانسحاب وهذا الصمت وهذا الحياد السلبي أكثر ما يخيفني شخصيا في سلوك مغاربة هذه الأيام.
لولا “طوفان الأقصى” واختلاف نظامنا السياسي عن أنظمة المنطقة الخائفة من أن يؤدي أبسط حراك في الشارع إلى سقوطها، لما كنا قد سمعنا صوتا للمغاربة.. لخلناهم أمواتا في عداد الأحياء.
فعذرا أهل غزة.