story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

عبد الله حمودي يكتب: اتفاقيات أبراهام أو الإمبراطورية الإسرائيلية

ص ص

يدعو المفكر والأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي في هذا المقال الذي خص به “صوت المغرب”، إلى التجميد التام للتطبيع القائم بين المغرب وإسرائيل “بجميع بنوده”، وذلك إلى غاية قيام الدولة الفلسطينية الكاملة السيادة.

ويشدد حمودي على تجميد البنود الخاصة بالتعاون الأمني والعسكري، بالنظر إلى أن جيش إسرائيل وجهازها الأمني متورطان في أفعال حرب وتعذيب إجراميان ينمّان على مسلسل يرمي إلى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. “وإن استمرت بلادنا في التعاون مع هذين الجهازين، فإن اشتباه تواطؤها مع إسرائيل في خضمّ هذه الجرائم الحربية ربما يصبح أمرًا واردًا”.

هذا النص الكامل للمقال:

“تطلَّب تحرير هذا المقال وقتًا طويلًا، والأوضاع في غزة تتحوّل من سيء إلى أسوء. وهناك خبر جديد يُغيّر بكيفية نوعية النظرة إلى مجرى الحرب على غزة. هذا الخبر يتعلّق بالقرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية بلاهاي يوم 26 يناير الجاري.
تُمثّل هذه القرارات منعطفًا فيما يخص القضية الفلسطينية والنظرة إلى إسرائيل، فقرارات المحكمة تفنّد المزاعم الإسرائيلية، إذ ولأوّل مرّة تَمثلُ الدولة العبرية للتحقيق في اشتباه تورط قادتها في مسلسل الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة. وتلزم قرارات المحكمة إسرائيل بالتوقف عن منع دخول المساعدات الإنسانية المتعلقة بالغذاء والماء ومستلزمات التطبيب، مع الإمساك عن كل ما من شأنه تجويع الشعب الفلسطيني.
أتعرّض في هذا المقال إلى مسألة انخراط بلادنا فيما يسمّى بـ “اتفاقيات أبراهام” على غرار دول خليجية. ومعروف أنّ مفاوضات بين المملكة العربية السعودية من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى كانت قد قطعت أشواطًا شبه حاسمة في مسار انخراط تلك الدولة (وبثقلها الاستثنائي في منطقتنا) في الاتفاقيات المذكورة.
وما جاء في التمهيد لهذا المقال قد يحتّم الطرح الأساسي هنا، وهو التجميد التام للتطبيع، وهذا يعني أيضًا التجميد التام لانخراط بلادنا في “اتفاقيات أبرهام”.
كان المشروع الإسرائيلي- الأمريكي هذا على وشك الانتصار لولا الضربة القاتلة التي أصابت إسرائيل يوم 7 أكتوبر 2023… والتي انطلقت من غزة المحاصرة منذ سنوات طويلة.
ومعروف أنّه وشهرا قبل عملية “طوفان الأقصى”، كان نتنياهو قد عرض خريطة ما سمّاه “الشرق الأوسط الجديد”، وهي خريطة تصوّر امتداد تراب إسرائيل من نهر الأردن شرقًا إلى البحر غربًا.
وبعد هذا التقديم، أتناول جانبين أساسيين: الأول منهما يتعلق بالموقف الخاص ببلادنا حيال التطبيع مع إسرائيل والدخول في زمرة الموقعين على “اتفاقيات أبراهام”. وما يأتي في هذا الباب يهمّ المغرب فقط، وذلك راجع لإمساكي عن الخوض في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى، لذلك سأروم الإيجاز في هذا الجانب.
أمّا الجانب الثاني فهو يعرض نظرية تتلخص في أنّ “اتفاقيات أبراهام” ما هي إلّا إطار لبناء إمبراطورية إسرائيلية تتحكم في منطقتنا بشراكة مع الولايات المتحدة. ولا بدَّ من معالجة هذا الأمر بالتفصيل.
I – المغرب والتطبيع مع إسرائيل
في هذا الباب، أدعو إلى التجميد التام للتطبيع بجميع بنوده، والتجميد التام لـ “اتفاقات أبراهام” إلى غاية قيام الدولة الفلسطينية الكاملة السيادة. في موضوع بنود التطبيع، أشدّد على البنود الخاصة بالتعاون الأمني والعسكري، ذلك لأنّه أصبح جليًا اليوم أنّ جيش إسرائيل وجهازها الأمني هما متورطان في أفعال حرب وتعذيب إجراميان ينمّان على مسلسل يفضي، لا قدر الله، إلى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. وإن استمرت بلادنا في التعاون مع هذين الجهازين، فإن اشتباه تواطؤها مع إسرائيل في خضمّ هذه الجرائم الحربية ربما يصبح أمرًا واردًا.
أمّا فيما يخص موضوع الدولة الفلسطينية، فإنّي أرى أنّ السيادة الكاملة تعني عدم الرجوع إلى حل الدولتين – وهو حل موهوم – والذي انتهى منذ وقت طويل بسبب نسفه الكامل من طرف إسرائيل وحكوماتها المتطرفة. أما سلامة الدولة الفلسطينية وسيادتها الكاملة، فهي تستوجب نزع السلاح النووي من أيادي الصهاينة.
وإنَّ تحقيق هذه الأهداف يتطلّب مجهود تعبئة ذات النفس الطويل، لأننا أمام مسار صعب وطويل لإقناع التيارات المختلفة في البلاد، والوقوف الصارم في وجه لوبيات التطبيع. تلك اللوبيات الناشطة في استثمار العلاقات القائمة بين بلادنا وإسرائيل. وكلنا يعرف أنّ هاته الأخيرة سوف تختفي مؤقتًا حتى مرور العاصفة لاستئناف عملها بوسائل أخرى، ويمكن أن تكون آلية القهر من بين تلك الوسائل.
II – اتفاقيات أبراهام تأسس لإمبراطورية إسرائيلية
بالنسبة لموضوع الإمبراطورية الإسرائيلية، فتسمية الإمبراطورية هنا لا تعني بالضرورة أنها تشبه تمامًا الإمبرياليات القديمة. وإن تحقّق المشروع، فسوف يبسط الهيمنة على نطاق واسع بوسائل متجدّدة. وكيفما كان شكل الإمبراطورية هاته، فإنها تهمُّ جميع دول منطقة المشارق والمغارب، وبالطبع فإنّ امتداد تأثيرها السياسي والاقتصادي يتعدّى المنطقة بكثير.
أستهلُّ الكلام في الموضوع بداية بالمغرب هنا أيضًا. ولا بأس، لأن ذلك يسمح بنوع من المقارنة تُمهّد للتوسّع في الموضوع.
انخرطت بلادنا في “اتفاقيات أبراهام” منذ ما يزيد على ثلاث سنوات خلالها تسارعت وثيرة العلاقات مع إسرائيل بكيفية مذهلة في جميع الميادين، بما فيها مجال الدفاع والأمن والثقافة والتراث اللامادي والبحث العلمي، علاوة على الاقتصاد والمبادلات التجارية… هذا التطور الخطير تحقق بفعل نشاط دبلوماسي مكثّف بعد افتتاح مكتبي الاتصال بالرباط وتل أبيب.
والمثير، وغير المفهوم، أن الحرب على غزة تظهر وكأنها لم تغيّر إلّا القليل في مسار الأشياء بين البلدين. وكأنَّ الاجتياح والتخريب والتقتيل وبوادر الإبادة الجماعية- كل هذا لا ينال من تنامي “البزنيس”. على سبيل المثال، اختار مكتب الاتصال المغربي بتل أبيب يوم انعقاد الجلسة الأولى لمحكمة العدل الدولية بلاهاي للنظر في الشكوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل– اختار مكتب الاتصال ذلك اليوم بالذات للإعلان عن بداية تقديم الخدمات القنصلية في إسرائيل (وذلك ابتداءً من 22 يناير 2024، حسب برنامجه). وكأن شيئًا لم يكن! ولئن كان هذا يوحي بشيء، فإنّه في نظري، يوحي بأنّ أوساط القرار المغربي اعتبرت أنّ الأشياء عادية بالرغم من الحرب الطاحنة على غزة. والحال أنّ لا الدولة العبرية عادية، ولا العلاقة معها عادية.
والظاهر أن أوساط نافذة، وشرائح مجتمعية وإثنية تروم إلى تنمية “العلاقات الثنائية”، وتستثمر فيها بسرعة فائقة. على ما يبدو أن تلك الأوساط متيقنة من مستقبل ازدهار كبير للمبادلات… لدرجة أنك تقرأ يوميًا جريدة إلكترونية باللغة الفرنسية يقف ورائها بعض أصحاب القرار ولا ذكر فيها لما يجري في غزة! ما عدا مقال لكاتب معروف قال إنّ ترتيبات الزحف الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية يعود لـعام 1948، ثم بعد ذلك زعم أن حماس قد أعطت الفرصة لإسرائيل في حربها الحالية على غزة. والأدهى أن كاتبنا كان قد صرّح في مقال سابق، وفي الجريدة نفسها، بأنّ عملية “طوفان الأقصى” قد أقبرت القضية الفلسطينية. ويظهر أنّ صاحب هذه التعاليق لا يتورّع عن الإتيان بأنصاف الحقائق.
ومن تصفح تلك الجريدة الإلكترونية كل يوم، سيجد أنها لم تنشر خبرًا حول حرب غزة إلّا يوم 28 يناير الحالي، أي بعد نشر قصاصة بـ “لاماب” من مصدر في وزارة الخارجية المغربية يرحّب بقرارات محكمة العدل الدولية، ضمن موقف ضبابي حول الأحداث الدائرة في غزة، دون إلحاح على وقف إطلاق النار، وهو الأمر الحيوي اليوم.
ومهما يكن، فإنّ هناك من يصرّح أو يهمس بأنّ العلاقة مع إسرائيل هي علاقة ثنائية من نوع “رابح رابح”. إنّ تنامي تلك العلاقة سوف يظهر أنّها في الحقيقة من نوع “رابح كثير/ رابح قليل”. والرابح كثيرًا هو إسرائيل إن كُتبَ النجاح للعملية. أمّا الرابح القليل هم المغاربة المستثمرين في تلك العلاقة. وبالنسبة لأهل البلد، من حيث هو كيان، فيتضح أن الخاسر هو ذلك الكيان لا محالة! إذ لا يجوز أن تتغلب مصالح فئات ثرية تمتلك الامتيازات المعروفة على المصالح العليا للكيان المغربي، وأن تتغلّب مصالح تلك النخبة عل مصالح الجماعة.
ولربما يكون للوبيات التطبيع و”اتفاقيات أبراهام” نصيب في الغنيمة. ولكن دورهم ومكانتهم في ترتيبات المنظومة سيكون ثانويًا، وتموقعهم في سلم الشرف وضيع بالمقارنة مع اليهود والشرائح الأمريكية والأوروبية.
أمّا القيمة التي من المحتمل أن تمنح لغالبية المطبعين بالسلم التراتبي الجديد، إن تحقق، فإنها لن تكون إلّا وهينة. فالحرب على غزة قد عرّت على العرقية الجارفة لحكام إسرائيل ولغالبية المجتمع الإسرائيلي وقادته، كما أغلبية مثقفيه، وكذلك أصحاب المواهب من كتاب وفنانين إلخ… ماعدا أقلية، فإنّ الحرب وما واكبها من ممارسات وتصريحات- كل ذلك جعل الإسرائيليين يصارحوننا بنظرتهم لأنفسهم مقارنة معنا: إنهم من طينة يفوق ثمنها ثمن طينتنا…
ففي حالة قيام الإمبراطورية الإسرائيلية بشكل من الأشكال – واتفاقات أبراهام تبني لها – سوف يكون للإسرائيليين وإخوانهم وحلفاءهم عبر العالم من غير العرب والمسلمين، دور الريادة والقيادة. ولأذيالهم بقايا الوليمة لا غير. لهذا وجب علينا الاستعداد لمناهضة المشروع بجميع الوسائل السلمية مع قبول التضحيات الناجمة عن ذلك. ولا بديل عن تعبئة مستدامة وبلا هوادة. فنحن على أبواب مسار خطير وطويل.
فنظام إسرائيل الذي يحاول التوسع بسحق الشعب الفلسطيني أولًا، ولا يقيم وزنًا حقيقيًا لأي من جيرانه – هذا النظام لا ينحصر في حزب الليكود والأحزاب المتطرفة المتعاقدة معه. ومن المعلوم أن فلول حزب العمل والطوائف الأخرى باستثناء بعض التنظيمات الصغيرة وأقليات دينية يهودية، لا تختلف أهدافها كثيرًا عن البرنامج الصهيوني العام فيما يتعلق بالاستيطان على حساب شعب بكامله، وتمزيق أوصاله لتحويله إلى أقليات متناثرة مسيطر عليها داخل جسم إسرائيلي قويّ. وقد ظهرت وتطورت تلك البرامج ومؤسساتها منذ 1948 مع حكم بن غوريون وإلى يومنا هذا.
وعلى كل حال، فقد تسلسلت عملية نسف اتفاق أوسلو بالاستيطان والاضطهاد والترحيل وتعظيم النفس مع حكومات إيهود باراك وأولمرت ثمّ المتطرف نتنياهو… كل هذا بمباركة شعب تكوَّن على تنافي وجود الفلسطينيين والعرب واحتقار حضارتهم.
وبمباركة ذلك الشعب – ما عدا أقلية تستحق كامل الاحترام – توالت عملية تشريد أهل الأرض وإجلائهم والسطو على بيوتهم وأرضهم ومزارعهم في واضحة النهار. وقد تمّت تربية شعب بكامله يعيش في ظل جيشه. وفي جميع الأحوال يسكن سيكولوجيًا في شبه علبة لا يهمه الفلسطينيون ويتناسى وجودهم. وما دامت قوات دولته تعمل ليل نهار على إقناعه بظنها قادرة على توفير نعمة الأمن التام لليهود أولًا وقبل كل شي.
تربت على القاعدة العسكرية أجيال، وهي القاعدة التي يبدو أنها تساهم بقدر كبير في تكوين نظرة تلك الأجيال لجيرانهم، وللعالم بصفة عامة.
وإذ أكتب هذا فإني أعود لأؤكد أني لا أعمم على كل الإسرائيليين أو اليهود هذه الصفات… ففي نظري يبقى لكل فرد إمكانية استعادة إنسانيته وقدرته على الصحو من تحجّر مسبّقاته، والانعتاق من أصفاد التربية.
كل ما هناك أنه يبدو أن الواقع الذي وصفته تظهر ملامحه بقوة في الحياة العملية، وتتحجر في ظروف الأزمات. وما أكثر الأزمات التي سببها ولا يزال، ذلك المشروع الصهيوني الذي فرضه على منطقتنا استقواء المجتمعات الأوروبية والأمريكية.
مهما يكن، فإن حكم الإمبراطورية الإسرائيلية ظهر في تصور أو آخر. من أشكاله حكاية إسرائيل الكبرى من البحر إلى نهر الأردن، أو مع ابتلاع بلاد الأردن والتوسّع إلى الفرات. وقد صرّح كاتب وسياسي إسرائيلي يُدعى آفي ليبكين بأن حدود إسرائيل “ستمتد في نهاية المطاف من لبنان إلى الصحراء الكبرى، أي المملكة العربية السعودية، ثم من البحر الأبيض المتوسط إلى الفرات”. وبالطبع هاته التصريحات لا يمكن اعتبارها تصريحات رسيمة أو تمثّل رأيًا شائعًا في إسرائيل. ولكن ظهورها له دلالاته.
ولا يغترن أحد بالحجم الجغرافي المتواضع لإسرائيل اليوم، ذلك لأنّ “اتفاقيات أبراهام” قد تكون هي بداية ذلك التوسع الإمبراطوري. وكما أسلفت، فإن هذا التوسع قد يضمّ الولايات المتحدة نفسها بشكل من الأشكال. فحرب غزة أبانت بأننا لا نعرف من يتحكم في من، هل الحكومة الإسرائيلية أم الإدارة الأمريكية؟
III – الوحدة الترابية للمغرب ومعادلة الرئيس ترامب
بعد أن توسعتُ في موضوع ما سميته “الإمبراطورية الإسرائيلية” من حيث هي تصوّر إسرائيلي بدعم أمريكي أوروبي – تصور يرام تحقيقه على الأرض بدءًا بالتطبيع مع إسرائيل والانخراط في اتفاقيات أبرهام – بعد كل هذا يبقى أن هناك مسألتين تهمان مصير المغرب بالدرجة الأولى، وهما في منتهى الخطورة. الأولى تتعلق بوحدة التراب الوطني واسترجاع الصحراء إلى حظيرة الوطن امتدادًا لنزع الاستعمار الإسباني عنها. والثانية تتلخص في “صفقة” (Deal)، حسب عبارة كررها دونالد ترامب فيما يخص المفاوضات وعقد الاتفاقيات…
قبل الدخول في صميم الموضوع، أود أن أعيد إلى الأذهان موقفي فيما يخص المسألة الأولى، أي قضية الصحراء المغربية، وأن أصرح بموقفي فيما يخص المسألة الثانية. في الأولى كنت قد عبرتُ غير ما مرة عن تشبتّي بوحدة التراب الوطني، وحتمية اكتماله باسترجاع الصحراء.
أما المسألة الثانية، وبخصوص تلك المعادلة التي قرنت الاعتراف بمغربية الصحراء من طرف الولايات المتحدة بالتطبيع مع إسرائيل والتوقيع على اتفاقيات أبراهام، فإني أصرح اليوم أن تلك المعادلة لا تصمد أمام التحليل الدقيق.
أشعر تمام الشعور أن تجميد التطبيع واتفاقيات أبراهام من جانب واحد أمر صعب. ولكني ومن أجل التدقيق أقول أيضًا إنه تجميد إلى حين؛ أي تجميد إلى غاية قيام الدولة الفلسطينية الكاملة السيادة. وكيف ما كان الحال فإنه لا مناص من معالجة المسألتين التي تهمان مصير المغرب، ولا طرف آخر غيره.
الأولى تتعلق، وكما أسلفت، بوحدة التراب الوطني وسيادة بلادنا عليه. وهذه العملية ما هي في نظري إلا استكمال لنزع الاستعمار من المنظور الذي كان ولايزال سائدًا بين عموم المغربيات والمغاربة قبل الاستعمار وغداة الاستقلال الجزئي، حيث تحرك جيش التحرير في ذلك الاتجاه لولا تدخل القوات الفرنسية آنذاك. والمسألة الثانية هي تلك المعادلة التي حصلت بقبول مقترح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب القاضي باعتراف المغرب بدولة إسرائيل والدخول في اتفاقيات أبراهام، مقابل اعتراف أمريكا بمغربية الصحراء.
إن المسألتين، في نظري، هما في الحقيقة وجهان لإشكالية واحدة، ألا وهي سيادة المغرب على أرضه، والتي حاول الاستعمار سلبها منه. وإن نحن سلمنا بهذا، فإن وسائل تحقيق الغاية يُمكن أن تختلف. وهنا لا بد من بعض التفصيل للولوج إلى طرح الوسيلة.
إنّ معادلة ترامب كما هو معلوم جاءت نتيجة “صفقة” (Deal)، وهي مفردة من قاموس التجارة والأعمال بصفة عامة كان يحلو للرئيس السابق، وهو رجل أعمال، ترحيلها إلى الميدان السياسي بأكمله. وقد تتبعنا أشواط إعداد الصفقة بمجهود ج. كوشنير، كبير مستشاري الرئيس وصهره؛ وكذلك فإننا تتبعنا المجهود الدبلوماسي لهذا الأخير وتنقلاته بين العواصم المعنية بالأمر، ومنها الرباط عاصمة بلادنا.
بعد هذا كانت مراسم التوقيع على اتفاقية التطبيع بإشراف الملك والمستشار الأمريكي. وتم توقيع الاتفاقية من طرف رئيس الحكومة والأمين العام لحزب البيجيدي آنذاك السيد سعد الدين العثماني من جهة، وكبير المسؤولين من الطرف الإسرائيلي من جهة أخرى، وهو من أصول مغربية، والذي خاطب العاهل بالتعبير المغربي عن السيادة، واللائق بمقام الملك من حيث هو أسمى سلطة في البلاد، يكون كل ما نطق به بمثابة مرجع لا ردّ عليه. أشرف الملك على تلك المراسم من دون خطاب، وأمّا التوقيع فباشره رئيس الحكومة.
ومهما يكن، فإنّه في نظري، قد يستحيل قبول معادلة ترامب ولأسباب أذكر أهمها.
أولًا: إنّ الإدارة الأمريكية اتخذت ميزانًا ووضعت الصحراء المغربية في كفة قابلتها بالقضية الفلسطينية في غلاف اتفاقية التطبيع في الكفة الأخرى. والقضية الأولى عادلة وخصوم بلادنا حاولوا إنكار حقها. وفي جميع الأحوال فالمغرب يتمسك بالسيادة ويترك باب المفاوضة السلمية مع الجزائر والبوليساريو مفتوحًا على مصراعيه. وأهلنا في الصحراء يتمتعون كباقي المغاربة بنفس الحقوق ولهم نفس المسؤوليات.
أما القضية الفلسطينية فهي بالدرجة الأولى قضية محاولة سطو على بلد وإبادة شعبه أو ترحيله قسريًا. والعملية برمتها مبنية على تنافي وجوده. وما جرى سنة 1948 من التقتيل والترحيل والإبقاء على أقلية فلسطينية تحت السيطرة في الدولة العبرية، ما هو إلّا عربون على ما يجري في فلسطين منذ قيام إسرائيل، وما يحاك اليوم في واضحة النهار حسب تصريحات القادة الإسرائيليين أنفسهم والدعم اللامشروط من الولايات المتحدة وأوروبا؛ وألمانيا في المقام الأول. والبرنامج يتلخص في القضاء عسكريًا على شعب وتحويل ما بقي منه بعد المجازر والتجويع وتفشي الأمراض إلى أقلية تُرحّل أو تبقى متناثرة في أرضها تحت حكم الدولة العبرية بوسائلها اللإنسانية.
قد يكون بين الشركاء اختلافات طفيفة ولكنهم اليوم يلوحون بما يسمى “حل الدولتين” تحت الضغط العسكري الذي يأتي على الأخضر واليابس. والدولة الفلسطينية المزعومة تحت الضغط قد تكون شبه مستعمرة تُسيّر الشأن اليومي في ظل السيطرة الإسرائيلية…
والحل مزيف، ويبدو وكأنه مناورة لإلهاء الناس على حرب الإبادة الدائرة في غزة في عز النهار. وفي جميع الحالات يبدو أنّ الشعب الفلسطيني الصامد سوف لا يقبل بأقل من دولة كاملة السيادة.
ومن جهة أخرى، فإنّ معادلة الرئيس الأمريكي السابق ليست مقبولة بالنسبة لقضية وحدتنا الترابية. وهي مرفوضة فيما يتعلق بفلسطين لكون تلك المعادلة انبنت على البرنامج الصهيوني الهادف إلى محو شعبها من الوجود.
ثانيًا: إنّ تجميد الاتفاقية إلى حين ليس بمثابة خرقها. وفي هذا الصدد أوضّح أن هذا الموقف لا يدعو إلى التخلي عن العلاقات المغربية- الأمريكية. فهذه العلاقات مثمرة وعريقة بفعل تأسيسها منذ القرن الثامن عشر الميلادي، وكون صانعها سلطان من السلالة العلوية، في معاهدة أبرمها مع الجمهورية الأمريكية الناشئة بقيادة جورج واشنطن. فالمغرب هو الحليف الوحيد للولايات المتحدة في منطقتنا بفعل أقدم معاهدة من هذا النوع. ومن حيث هو حليف قوي بتاريخه ومؤهلاته وموقعه الاستراتيجي، مع عمقه الأفريقي الذي يعطيه مكانة خاصة، وقدرات لا يستهان بها في المفاوضات والتفاهمات السلمية بين الحليفين.
ومع الأخذ بعين الاعتبار حجم كل من الحليفين، فإنّ بلادنا لها علاقات قوية ببلدان في محيطها، وأخرى في أفريقيا؛ والعلاقة مع أوروبا تتصدر كل العلاقات الخارجية؛ وكذلك فإن للمغرب انفتاح على روسيا، والهند والصين وغيرها.
والخلاصة إنّ بلادنا لا تحتاج إلى إسرائيل للدفاع عن مصالحها، ولا إلى وسائل ضمان أمنها الداخلي والخارجي. ومجرى التاريخ منذ قيام الدولة العبرية إلى اليوم أثبت اخفاق تلك الدولة في التفاعل باحترام حقيقي مع جيرانها ومصالحهم الإنسانية والثقافية بسبب نظرتها العرقية المحضة إلى جميع الأمور. فالحرب الطاحنة على غزة عرّت ذلك الوجه المستعلي سلفًا لإسرائيل في حلتها العصرية (ولا أقول اليهود بصفة عامة).
لقد قوّضت الدولة العبرية مزاعمها بنفسها، وتبخرت حكاية جيشها “الذي لا يقهر”، وعجزها عن تحقيق الأمن لنفسها قبل تحقيقه لدولة أخرى. كما تبخر حلم الإمبراطورية الذي يُخامر حكامها.
وفيما يخص وحدة ترابنا فإن الشعب، بزعامة الملك، قادر على إحباط أي مناورة كما ظهر ذلك في مناسبة المسيرة الخضراء، وكذلك فإنّ الجيش الملكي باحترافيته وقدراته القتالية العالية يضمن سلامة البلاد والعباد.
ويبقى لنا الأمل الراسخ في سلام دائم يضمن العيش المشترك والحياة الكريمة لشعوبنا قاطبة، والتعايش بين اليهود والمسلمين على الصعيد العالمي.
أشكر الباحث عبد اللطيف الحماموشي على مساعدته في إعداد هذا المقال.
عبد الله حمودي
16 رجب 1445 الموافق لـ 29 يناير 2024″