story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

عبد العزيز كوكاس يكتب: سنة تقاطع الأمل والقلق

ص ص

توشك السنة السادسة والعشرون من عهد الملك محمد السادس أن تُطوى، وهي ليست فقط رقماً إضافياً في مسار ملكية متجذرة، بل مرآة تعكس التحولات الكبرى التي عرفها المغرب خلال زمن دقيق ومحفوف بالرهانات، يُشكل فيه الزمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي مسرحاً لصراع بين الأمل والتوجس، بين ما تحقق وما تعذّر، بين تطلعات مجتمع فتيّ ومطامح دولة تسعى لتثبيت سلطتها في عالم متقلب.

لقد وُسمت هذه السنة، الممتدة من يوليوز 2024 إلى يوليوز 2025 بلحظات فارقة، لعل أبرزها الاحتقان الاجتماعي الذي بدأ يتشكل على خلفية الغلاء وتآكل القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المغاربة، مقابل إحساس متزايد باللاعدالة المجالية والطبقية. فرغم مجهودات الدولة في ضخ استثمارات كبرى في البنية التحتية، ومشاريع التحول الطاقي، والنهوض بالاقتصاد الأخضر، إلا أن المواطن العادي لا يزال يشعر بأن عائد التنمية يتسرب بعيداً عنه وأن الإصلاحات الكبرى لا تمس حياته اليومية إلا عرضاً.

هناك تحديات اجتماعية واقتصادية تتعمق، مع الغلاء، خاصة في أسعار المواد الغذائية والخدمات الأساسية، ظل العنوان الأبرز للسنة، بل أصبح مرادفاً لفقدان الثقة في قدرة الحكومة الحالية على إيجاد توازن بين استحقاقات السوق الدولية والتزامات الدولة الاجتماعية. وقد زاد من حدة الشعور العام بالغُبن، ضعف التواصل السياسي، وفقدان الوساطة الاجتماعية، خاصة بعد إضعاف الأحزاب والنقابات، مما فسح المجال لتنامي التعبيرات الاحتجاجية غير المنظمة أو المُؤطّرة رقمياً.

في مقابل ذلك، برزت مبادرات نوعية، كمواصلة تنفيذ مشروع تعميم التغطية الصحية والاجتماعية، الذي يظل من رهانات الملك الكبرى ومحاولات ضبط إيقاع النموذج التنموي الجديد، رغم أن تنزيله لا يزال محتشماً ومشتت الرؤية بحكم الإرباك الكبير الذي خلفه وباء كورونا محليا ودوليا. كما شهدت السنة تسريع وتيرة مشاريع البنية التحتية الكبرى، مثل الخط الفائق السرعة بين مراكش وأكادير، واستكمال الربط الكهربائي الأخضر مع أوروبا، واستمرار التفاوض حول مشاريع صناعية وشراكات دولية واعدة، خصوصاً مع دول الخليج والصين وأوروبا.

لم تغب القضية الوطنية الأولى، قضية الصحراء المغربية، عن واجهة الأحداث. حيث شهد هذا العام تثبيتاً للانتصارات الدبلوماسية السابقة، عبر فتح قنصليات جديدة لدول إفريقية وآسيوية في العيون والداخلة، وتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي مع شركاء كبار مثل فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة. وهو ما دفع المغرب إلى تعزيز تنويع شراكاته. في السياق ذاته، يبقى ورش الجهوية المتقدمة ضعيف التنزيل، إذ لم يتحول بعد إلى أداة فعالة لخلق تنمية محلية متوازنة، بل أضحى في بعض الحالات مجرد غلاف إداري لمركزية مستترة.

من اللافت خلال هذه السنة، أن الملك محمد السادس واصل تأكيد دوره كضامن للاستقرار ورؤية المستقبل، خاصة في ظل غياب بريق الحياة السياسية وتآكل الرهانات الانتخابية. فالحكومة الحالية، برئاسة عزيز أخنوش، لا تزال تُواجه نقداً واسعاً يتعلق ببطء الأداء، وضعف القدرة على الاستجابة لانتظارات الناس، وتغليب منطق التدبير التقني على الحيوية السياسية.

وبينما تراجعت الثقة في المؤسسات المنتخبة، برزت المؤسسة الملكية كفاعل جامع، يستمد شرعيته من تاريخه، لكن أيضاً من مبادراته المتواصلة في المجال الإفريقي، وفي دعم الشباب والتعليم والصحة. غير أن استمرار تمركز القرار في يد المؤسسة الملكية دون تعزيز فعلي لباقي المؤسسات، يطرح سؤالاً عن مستقبل الانتقال الديمقراطي وموقع المشاركة الشعبية في رسم السياسات.

رغم انشغال الدولة بالملفات الكبرى، عرفت هذه السنة بعض الانفراجات الثقافية الرمزية، من خلال الانفتاح على الأمازيغية وتوسيع حضورها المؤسساتي، وإطلاق مشاريع لحماية الذاكرة اليهودية المغربية، وتعزيز الشراكات الثقافية مع إفريقيا وأوروبا. لكنها خطوات لم تُواكبها بعدُ نهضة فكرية أو إعلامية قادرة على خلق مناخ جديد للحوار العمومي، ما جعل المشهد الثقافي يبدو صامتاً، أو في أفضل الأحوال منغلقاً على نخبه.

ثمة منجزات كبرى حولت البلد من مراكزه إلى هوامشه، هناك تقدم كبير في مجال إرساء البنيات التحتية سيرتبط باسم الملك محمد السادس، وثمة استقرار يرسخ عمق الدولة المغربية في الكيان الاجتماعي، ضبطا وترويضا، استجابة وتكييفا.. لكن أمام هذه اللوحة المركبة، يظهر المغرب وكأنه في مفترق طرق. بلد يحمل في طياته مؤهلات دولة صاعدة، بتنوع مجتمعه، وموقعه الجغرافي، واستقراره السياسي وقوة مؤسساته، لكنه مثقل بإرث من الأعطاب البنيوية: تفاوتات مجالية، تعليم مترهل، سوق شغل هش وعطب سياسي متجدد.

لذلك، فإن السنة المقبلة يجب أن تكون لحظة مراجعة عميقة: مراجعة لأساليب الحكامة، لإعادة الاعتبار للوساطة السياسية والاجتماعية، لتصحيح أعطاب النموذج التنموي، ولإحياء الثقة في أن الديمقراطية ليست فقط انتخابات، بل مشاركة حقيقية، في ظل دولة قوية بمؤسساتها.

إن مستقبل المغرب في السنوات القادمة لن يُبنى فقط على المشاريع الضخمة، بل على رهان الإنسان: مواطن يشعر بالكرامة، وشاب يرى أملاً في التعليم والعمل، ومثقف له دور في الفضاء العام، وسياسي يملك مشروعاً لا فقط سلطة. حينها فقط، سيكون مرور 26 سنة على اعتلاء الملك العرش، ليس مجرد رقم، بل علامة على تحول ناضج نحو مغرب جديد.

*عبد العزيز كوكاس: كاتب وصحافي