عبد الصمد الإدريسي يكتب: مسار طمس الحقيقة.. من لجنة تقصي الحقائق إلى المهمة الاستطلاعية

أثار الدعم الحكومي لقطاع استيراد المواشي الذي انطلق منذ نهاية سنة 2022 سواء من خلال الإعفاء من الرسوم الجمركية وتحمل الميزانية العامة للضريبة على القيمة المضافة عند استيراد المواشي، أو على شكل دعم مباشر بالنسبة لاستراد الأغنام الموجه للذبح في عيد الاضحى برسم سنتي 2023 و2024، الكثير من الجدل بخصوص مآل وحجم المبالغ المالية التي تكبدتها ميزانية الدولة لفائدة المستوردين.
وقد عرف هذا الموضوع تضاربا كبيرا في الأرقام سواء داخل الأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية أو بين الأغلبية من جهة والمعارضة من جهة أخرى، ما دفع فرق المعارضة من خلال بلاغها الصادر بتاريخ 06 أبريل 2025 إلى إطلاق مبادرة لتشكيل لجنة نيابية لتقصي الحقائق حول الوقائع المتعلقة بمختلف أشكال الدعم الحكومي الموجه لاستيراد المواشي ولقطاع تربية المواشي بصفة عامة.
وهو ما قابلته فرق الأغلبية بمجلس النواب بتاريخ 07 أبريل 2025 بتوجيه طلب بمهمة استطلاعية إلى رئيس لجنة القطاعات الإنتاجية بنفس المجلس تطلب منه العمل على تنظيم مهمة استطلاعية للوقوف على البرامج والإجراءات المتخذة لدعم استيراد الأبقار والأغنام واللحوم ومدى تحقيقها للغايات المحددة لها.
وهو ما يثير العديد من الأسئلة حول الفرق بين الآليتين المراد تنظيمهما بخصوص الدعم الحكومي الموجه لاستيراد المواشي (الأغنام والأبقار) وحول المخرجات والمآلات الممكنة لكل منهما، وما الذي تخشاه فرق وأحزاب الأغلبية من تشكيل لجنة نيابية لتقضي الحقائق؟
الاختلاف من حيث الأساس القانوني:
إذا كانت اللجان النيابية لتقصي الحقائق تجد أساسها في دستور المملكة باعتبارها واحدة من الآليات الرقابية المهمة التي خصها بفصل مستقل (الفصل: 67 من الدستور)، وتم تنظيم طريقة تسييرها من خلال القانون التنظيمي رقم: 85.13، فيما المهام الاستطلاعية باعتبارها مجرد تكليف من مكتب إحدى اللجان الدائمة بالبرلمان لا تعدو أن تكون مهام إخبارية بطبيعتها نصت عليها المادة: 142 من النظام الداخلي لمجلس النواب والمادة: 125 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين.
ومن خلال المقارنة بين الأساس القانوني يتضح الفرق الكبير بين كلا الآليتين والأثر السياسي والقانوني لكل منهما، ذلك أنه لا يمكن أن يكون أثر آلية دستورية أقرها دستور المملكة وتم تنظيمها من خلال قانون تنظيمي هو نفسه لمهمة يمكن أن تقوم بها أية لجنة من اللجان الدائمة لأحد مجلسي البرلمان من خلال عضوين فقط أو أكثر من أعضائها.
الاختلاف من حيث سير الأشغال:
تختلف أيضا كل من اللجان النيابية لتقصي الحقائق عن المهام الاستطلاعية من حيث طريقة تسييرها وسير أشغالها واتخاذ القرار داخلها، ذلك أنه بالرجوع إلى القانون التنظيمي: 85.13 المتعلق بطريقة تسيير اللجان النيابية لتقضي الحقائق نجد أن تسييرها واتخاذ القرار داخلها يتم عن طريق التصويت بالأغلبية، كما أن رئاستها ومقررها تؤول وجوبا للمعارضة (المادة: 6 من القانون التنظيمي)، وذلك على عكس المهام الاستطلاعية التي تصدر توصيات فقط ولا تتخذ أية قرارات، وتؤول رئاستها للفريق الذي قدم طلب المهمة، كما يتم التوافق بخصوص مخرجاتها وخلاصات التقرير الإخباري المنجز من قبلها.
أما من حيث آليات جمع المعطيات والحصول على المعلومات فإن اللجان النيابية لتقضي الحقائق يمكنها أن تستمع لكل من تراه مفيدا وتحصل على كل المعلومات والوثائق التي تراها ضرورية باستثناء تلك التي تتسم بالسرية بالدفاع الوطني أو أمن الدولة الداخلي والخارجي (المادة: 8 من القانون التنظيمي)، فضلا عن أن المادة: 10 من نفس القانون التنظيمي توجب على أي شخص أو مسؤول الاستجابة لاستدعاء اللجنة تحت طائلة العقاب بالحبس الذي يمكن أن يصل إلى سنتين والغرامة التي تصل إلى مبلغ: 20.000 درهم (المادة: 12).
في حين أن المهام الاستطلاعية لا تتوفر على أية آليات واضحة ودقيقة لجمع المعطيات والاستماع للأشخاص، كما أنها لا تتوفر على آليات ملزمة تجعلها توجه الاستدعاءات لتلقي الإفادات مع غياب أية إمكانية لترتيب عقوبات في حالة عدم الاستجابة.
الاختلاف من حيث المخرجات:
الاختلاف الأساسي بين اللجان النيابة لتقصي الحقائق وبين المهام الاستطلاعية يتجلى في مخرجات كل منهما والأثر السياسي والقانوني لها، ذلك أن الفصل: 67 من الدستور نص صراحة على أن أعمال اللجان النيابية لتقصي الحقائق تنتهي بإيداع تقريرها لدى مكتب المجلس المعني، وعند الاقتضاء، بإحالته على القضاء من قبل رئيس هذا المجلس، كما نص أيضا على أنه تخصص جلسة عمومية داخل المجلس المعني لمناقشة تقارير لجان تقصي الحقائق.
فيما نص النظام الداخلي لمجلس النواب (المادة: 147 منه) على أن المهام الاستطلاعية تنجز تقريرا يحال على مكتب المجلس وكذا مكتب اللجنة الدائمة ويناقش أمامها بحضور الحكومة، كما يمكن لمكتب المجلس دون أن يكون ملزما بذلك اتخاذ قرار برفع التقرير المذكور إلى الجلسة العامة، فيما يبقى للجنة الدائمة، وبعد مرور سنة على مناقشتها لتقرير المهمة الاستطلاعية، فقط الحق تتبع ما اعتبره النظام الداخلي توصيات واردة في التقرير.
من خلال ما سبق يكون الفرق الأساسي بين الآليتين هو التنصيص الدستوري بإحالة مخرجات لجان تقضي الحقائق على القضاء بما يعني ذلك من وضع يده على الأفعال المعتبرة بمثابة جرائم، ومتابعة المتورطين المفترضين الذين يثبت إخلالهم بالقانون، وهو ما يختلف بشكل كبير عن مجرد تقديم توصيات للحكومة كأقصى ما يمكن أن ينتج عن عمل المهام الاستطلاعية.
في عدم جواز تكليف مهمة استطلاعية بخصوص وقائع دعم استيراد المواشي:
لقد نصت المادة: 145 من القانون التنظيمي لمجلس النواب على أنه: “لا يمكن أن تمتد وظيفة المهام الاستطلاعية إلى مهام لجان تقصي الحقائق المؤطرة بموجب الفصل: 67 من الدستور” وهو ما يفيد وجود اختلاف بين وظيفة المهام الاستطلاعية ومهام لجان تقصي الحقائق وأن كل منهما تختص بمجال مختلف عن الآخر، وللوقوف على هذا الاختلاق يقتضي الرجوع إلى مهام ووظائف كل منهما؛
إن المهمة المنوطة بلجان تقضي الحقائق وفق ما نص عليه الفصل: 67 من الدستور تتجلى في جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة، أو بتدبير المصالح أو المؤسسات والمقاولات العمومية، وهو ما يجعل بصريح الفصل المذكور تبحث في وقائع معينة محددة. فيما جعلت المادة: 142 من النظام الداخلي لمجلس النواب مهام المهام الاستطلاعية تكون حول موضوع يهم المجتمع، أو يتعلق بنشاط من أنشطة الحكومة والإدارات والمؤسسات والمقاولات العمومية باتفاق مع مكتب مجلس النواب.
والمشرع الدستوري استعمل عبارتي (وقائع)، و(تدبير المصالح..) (الفصل: 67 من الدستور) وكررها في القانون التنظيمي: 85.13 المتعلق بطريقة تسيير اللجان النيابية لتقضي الحقائق، فيما اختار القانون التنظيمي عبارتي (موضوع) و(نشاط)، فالأمر لم يأتي اعتباطا وإنما لوجود فرق بين الوقائع والموضوع من جهة وبين التدبير والنشاط من جهة أخرى، مع استحضار أن كلا من القانوني التنظيمي والنظام الداخلي لمجلس النواب تم عرضهما وجوبا أمام المحكمة الدستورية، بما يعني ذلك من بيت الرقابة القضائية ذات البعد الدستوري على كل منهما.
فكلمة وقائع مصلح قانوني مختلف تماما على عبارة موضوع الواردة في النظام الداخلي لمجلس النواب، ذلك أن الأول يحيل على مجال دلالي مستوحى من القاموس الجنائي الذي يستدعي البحث والتقصي وترتيب الجزاءات، فيما عبارة موضوع مستوحاة من مجال آخر يحيل على السياسات العمومية التي تكون موضوع دراسة ومناقشة وإصدار توصيات فقط، وهو نفس ما يمكن استخلاصه من خلال إمعان النظر في مفهوم (تدبير) واختلافه عن مفهوم (النشاط).
إن الخلاصة التي يمكن الخروج بها من خلال استقراء هاته النصوص القانونية هي أن الوقائع المتعلقة بتدبير مختلف أشكال الدعم الحكومي الموجه لاستيراد المواشي ولقطاع تربية المواشي بصفة عامة لا يمكن إلا أن تكون موضوع لجنة لتقصي الحقائق بما يتوفر لها من آليات ملزمة للاستدعاء والاستماع لكل من تراه في استدعائه إفادة، مع إنجاز تقرير مفصل بمختلف تلك الوقائع وما يمكن أن يكون قد شابها من خروقات وتجاوزات.
وفي حالة ثبوتها إحالته التقرير المنجز على القضاء، كما أن أي قرار دون ذلك لن إلا محاولة للالتفاف على القانون من أجل طمس للحقيقة، ومحاولة للتستر على المستفيدين الحقيقيين من المبالغ الكبيرة التي تم تفويتها على خزينة الدولة.