story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

عبد الحق المريني.. خادم الملوك وناصر النساء

ص ص

قبل نحو 13 عاما، وفي أواخر العام 2012 تحديدا، كان اسم عبد الحق المريني الذي فارق الحياة ليلة الاثنين إلى الثلاثاء 02-03 يونيو 2025، يحيي منصب الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، بعد سبع سنوات من شغور هذا المنصب إثر رحيل صديق دراسة الملك، حسن أوريد، عنه.

مهمة أحدثت في الأيام الاولى لتولي الملك محمد السادس عرش أجداده العلويين؛ وبعدما كان “الشاب” حسن أوريد أول وآخر مغربي ينطق باسم القصر الملكي؛ عادت الروح إلى هذا المنصب الحساس في أكتوبر 2012، بتعيين الملك محمد السادس أحد “شيوخ” البلاط ناطقا رسميا جديدا باسم القصر الملكي، والذي لم يكن سوى مؤرخ المملكة عبد الحق المريني، وكأنما هي الأقدار تقوده لشغل المهام التي غادرها صديق دراسة الملك، حسن أوريد، بدءا من منصب مؤرخ المملكة الذي يشغله منذ نهاية 2010 وصولا إلى النطق باسم القصر.

نشأة مخزنية ووعي مبكر

يُعتبر المريني سليل عائلة مخزنية عريقة، هي عائلة المريني، علاوة على انحدار والدته من عائلة آل بناني. تعلّم حرفة خدمة الملوك إلى جانب الجنرال الراحل مولاي حفيظ العلوي، ذو القسوة الأسطورية في حراسة البروتوكول الملكي وطقوسه العتيقة لسنوات طويلة.

لكن عبد الحق المريني لم يتشبه بمزاج معلمه إن لم يكن نقيضه في كل شيء. فبقدر ما كان الجنرال قاسيا إلى درجة كبيرة، وصارما وشرسا في تعامله مع الغير، ولم يكن يعير للثقافة أي اهتمام يذكر، بقدر ما بدا المريني هادئا يزاوج بين اللين والشدة، ذلك أن إقدام جريدة أسبوعية على تخصيص غلافها لملف صحافي حول الأميرة للاسلمى قبل نحو ست سنوات من تعيينه متحدثا باسم القصر، دفع هذا المؤرخ الهادئ إلى تحرير رسالة قوية باسم وزارة القصور الملكي والتشريفات والأوسمة، وبعثها إلى الجريدة المعنية مطالبا إياها بالعودة إليه في مواضيع مماثلة ملوحا بالملاحقة القضائية.

المريني الذي رأى النور سنة 1934 بمدينة الرباط وشب في حي “لكزا” بالمدينة القديمة للعاصمة وتتلمذ في مدارس محمد الخامس ثم ثانوية مولاي يوسف، قبل أن يصبح أستاذا للغة العربية في عدد من مدارس العاصمة، يعتبر في نظر الكثيرين المثقف الذي زاوج بين مهام رجل الدولة مع ما تتطلبه من حزم وشدة في الأعراف التقليدية، ومهام الباحث المجتهد المنقب في التراث القديم والحديث، والمثقف المولوع بالفكر والاعتزاز بالانتساب إلى أهله، فاكتسب صورة رجل الثقافة والعلم المتواضع، والذي تربطه علاقات إنسانية طيبة مع من يعرفهم.

يصوّره جل من عرفوه في هيئة رجل بسيط يخالط الناس، ويستدلون على ذلك بإمكانية مصادفته وهو يتبضع من سوق السمك بالسوق المركزي بالرباط أو يتصفح إحدى الجرائد أو المجلات بكشك بشارع محمد الخامس بالعاصمة، أو يجلس ليرتشف القهوة في أحد مقاهيها، ويصفه أحد أصدقائه بأنه المسؤول السامي “الذي ينحني في الشارع العام ليحمل كتابا جديدا معروضا في الأكشاك”.

الطريق إلى التشريفات الملكية

بدأ كل شيء بالنسبة له مستهل سبعينيات القرن الماضي، حيث كان هناك من أخبر وزير قصور وتشريفات الحسن الثاني، مولاي حفيظ العلوي، أن ثمة شابا رباطيا من عائلة مخزنية أبا عن جد، يدعى عبد الحق، يستطيع أن يحل مشكلته مع اللغة العربية التي لم يكن يتحدثها.

فالمريني طبع مساره العلمي بتخصيص بحثه لنيل شهادة الدكتوراة لموضوع “شعر الجهاد في الأدب المغربي”، وهو حاصل على دبلوم معهد الدراسات العليا المغربية سنة 1960 وعلى الإجازة في الأدب العربي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1962، إضافة إلى دبلوم الدراسات العليا من معهد الدراسات العربية التابع لجامعة ستراسبورغ الفرنسية وعلى دكتوراه الجامعة من نفس المعهد سنة 1973.

ذهب الشاب عبد الحق المريني يومها إلى مكتب جنرال بروتوكول الحسن الثاني، وبطريقة ما عرف كيف يجتاز امتحان الجنرال الذي سبقته سمعته الأسطورية، فقضى المريني إلى جانبه عشرين سنة، وخلفه بعد ذلك في منصبه كمسؤول أول عن التشريفات الملكية والأوسمة.

إلمامه الكبير باللغة العربية لا ينفي “تكوينه المزدوج، حيث إن فرنسيته وثقافته الفرنسية عالية المستوى، وذلك نتيجة للتربية التي تلقاها داخل أسرته على يد جده محمد المريني، والذي كان حريصا على توجيه أبنائه وأحفاده إلى إتقان الثقافتين، العربية والفرنسية”، يقول مصدر مقرب من المريني.

مؤهلات ومميزات هذا الرجل يلخصها من خالطوه في تمتعه بطاقة كبيرة على الإنصات للغير، والاكتفاء بذلك حتى لو تعلق الأمر بما قد يكون مسيئا له، ويصيفون أن لديه طاقة مذهلة على تذكر تفاصيل الأحاديث التي يتبادلها مع جلسائه، وإن هذه الطاقة تنشط لديه أكثر فأكثر حينما يتعلق الأمر بقضايا تدخل في نطاق اختصاصاته المهنية. ويبدو أن هذا هو سر صموده لسنوات طويلة جدا مع الجنرال مولاي حفيظ، الذي عُرف بمزاجه الصعب.

ناصر المرأة

يكشف أحد معارفه جانبا مفاجئا في شخصيته، يتمثل في تحمّسه المبكّر للدعوات المنادية بتمكين المرأة من حقوقها ومساواتها بالرجل، “بل إنه وقع في حادثة طريفة أبانت عن تصوره المميز حول المرأة، حيث صدر قرار بنقل زوجته لتعمل في مدينة المحمدية في بداية الستينيات، فتخلى عن عمله كأستاذ بالرباط وانتقل رفقة زوجته إلى المحمدية، وهو ما أثار استغراب وزارة التربية الوطنية حينها، حيث قيل له إن ما نعرفه هو أن الزوجة تلتحق بزوجها وليس العكس، لكنهم وافقوا على انتقاله ليعمل بضع سنوات في مدينة المحمدية”.

“العمل البروتوكولي غني بالمفاجئات السارة وغير السارة، وباللحظات السعيدة والحرجة، وبالمواقف الصعبة واللينة، وبالطوارئ القاهرة والنوازل الغريبة، وهو أيضا معدن للتعرف على جميع أصناف البشرية وطبائعها العالية والدانية، القوية والضعيفة، الغنية والفقيرة، العالمة والجاهلة، المتخلقة وغير المتأدبة، الصالحة والطالحة”، يقول عبد الحق المريني في إحدى مقابلاته الصحفية مع جريدة “الشرق الأوسط” السعودية.

ويتابع المريني قائلا وهو يتحدث عن مهمته كمدير التشريفات الملكية والأوسمة: “مهمة التشريفات تبتدأ بتلقي التعليمات حول نشاط رسمي استقبالا كان أم حفلا ثم يأتي طور التهيء والاستعداد الكامل إجمالا وتفصيلا، ثم يتبعه طور الانجاز والإشراف على هذا الانجاز بكل دقة وتوجيه ومتابعة”.

ظل المريني، وهو حفيد الأمين محمد المريني الذي اضطلع بعدة مناصب مخزنية في عهد السلطان المولى يوسف، ومنها منصب مسؤول عن مالية دار المخزن (أمين الصيار)، لعقود من الزمن كظل خفيف في خلفية الصورة، يتحرك بتأن أو يصدر تعليماته لمساعديه مثل مخرج ماهر اختار الوقوف خلف الكاميرا بعيدا عن الأضواء. وأحيانا كثيرة، كان صوته يأتي مهيبا في حضرة الملك وهو يعلن أسماء الوزراء في حكومة جديدة، أو يلقن سفراء جدد قسم الإخلاص للدولة ولملكها في مناصبهم الجديدة.

“السلوك نصف خدمة الملوك”

عندما سألته إحدى المجلات العربية عن الطريقة التي استطاع بها أن يكسب ثقة ملكين هما الحسن الثاني ومحمد السادس، أجاب المريني قائلا: “خدمة الملوك تشريف، وقد أسعدني الحظ بأن خدمت ملكين مثل خدام آخرين، وخدمة الملوك تتطلب عددا من الخصال كالدراية، والإخلاص في العمل، والخبرة، والمواظبة، والصبر، والثبات في المواقف الصعبة، والتشبث بالمبادئ المثلى، وقديما قيل ‘السلوك نصف خدمة الملوك'”.

التحق عبد الحق المريني، الكاتب والمثقف، باتحاد كتاب المغرب في فبراير 1973، ويتوزع إنتاجه بين الأدب والتاريخ والشعر، وقد نشر مجموعة من المقالات ابتداء من سنة 1966 بعدة صحف ومجلات منها : “الأنباء”، و”العلم”، و”الشرق الأوسط”، و”البحث العلمي”، و”دعوة الحق”، و”اللقاء”، الفنون…

من مؤلفاته المميزة كتاب “الجيش المغربي عبر التاريخ”، الذي صدر سنة 1968، ثم أعيد إصداره سنة 1997 في طبعة جديدة ومنقحة قبل أن تصدر ترجمته إلى اللغة الفرنسية سنة 2000، وكتاب “شعر الجهاد في الأدب المغربي” الذي يقع في جزأين (1996)، وهو في الأصل رسالته الجامعية لنيل لقب الدكتوراه في الآداب.

أنجز عبد الحق المريني ديوان “الحسنيات” في ثلاثة أجزاء (1975 -1979-1983)، وكتب “قال جلالة الملك الحسن الثاني” الذي يقع في ثلاثة أجزاء، و”جلالة الملك الحسن الثاني الإنسان والملك”، و”محمد الخامس دراسات وشهادات”، و”دليل المرأة المغربية” و”مدخل إلى تاريخ المغرب الحديث من عهد الحسن الأول إلى عهد الحسن الثاني”.

زاره الموت مرارا

ظل المريني إلى آخر سنوات حياته نشيطا حسب معارفه، ينهض باكرا ثم يشرب القهوة بالحليب وبدون سكر وهو على طاولة الإفطار مع أسرته، ثم يذهب إلى عمله. عندما سُئل من طرف إحدى المجلات العربية، عما إذا كان يخشى الموت، أجاب بالنفي وقال إنه كان قاب قوسين أو أدنى منه ثلاث مرات:

الأولى وهو طفل على متن حافلة تربط بين الرباط وسلا، وكان محركها يعمل بالفحم الحجري لعدم وجود الوقود خلال الحرب العالمية الثانية، حيث انقسمت الحافلة إلى قسمين، ومات من مات وجرح من جرح لكنه كان من الناجين؛

الثانية، كانت عندما انقلبت به السيارة وهو في الطريق بين مدينتي الرباط وفاس، وسقطت في هاوية، وكان المريني حينها في مهمة رسمية، ولكنه نجا أيضا من معانقة الموت؛

أما المرة الثالثة التي اقترب منها من الرفيق الأعلى فيرويها بنفسه قائلا: “خلال المؤامرة الأولى الفاشلة بالقصر الملكي بالصخيرات، ونجاني الله من الموت المحقق بعد تعذيب أليم، فكل ما أخشاه هو أن أنتقل إلى العالم الآخر على حين بغتة دون أن أحقق ما آمل تحقيقه في مجال الكتابة والتأليف وأتركه للأجيال القادمة”.

فيما يروي المريني أحد المواقف المثيرة التي حصلت معه في عهد الحسن الثاني وظلت عالقة بذهنه قائلا: “عندما كنت صاعدا في مصعد للقصر الملكي، لألتحق بالمغفور له الملك الحسن الثاني، بأمر منه، في منتصف ليلة من ليالي رمضان، توقف المصعد لعطب أصابه، وبقيت معلقا في مصعدي لا حول لي ولا قوة، ومن حسن الحظ كان في المصعد هاتف، حيث اتصل بي الملك عدة مرات ليسأل عن حالتي، وأنه يعمل على إنقاذي بكل الوسائل، سيما وأن الهواء بدأ يقل داخل المصعد، وقد بقيت في هذه الوضعية ما يزيد على الساعة، حتى وصل التقنيون وحركوا المصعد، وخرجت منه وتنفست الصعداء. فأثر هذا الموقف الإنساني النبيل الذي وقفه المغفور له الملك الحسن الثاني، في نفسي غاية التأثير، وبقي راسخا في ذهني أتذكره كلما أضع رجلي في مصعد من المصاعد”.

ظل الملوك

بدأ عبد الحق المريني مساره داخل المنظومة المخزنية، بتوليه مسؤولية “محافظ” لضريح محمد الخامس في أواسط الستينيات، وهو المنصب الذي انطلق منه ليتسلّق السلم إلى غاية توليه مهام التشريفات والأوسمة في قصر محمد السادس. لكنه سيعود أواخر سنة 2010، ليشغل المنصب نفسه الذي انطلق منه، أي محافظ الضريح الذي دُفن فيه الملكان محمد الخامس والحسن الثاني، إلى جانب مهمة مؤرخ المملكة ومسؤول عن المطبعة الملكية.