عار الجار..
في الوقت الذي كنا ننتظر فيه استغلال حكام الجرائر لإحدى الفرص الكثيرة التي تتاح للتمرير القرارات الحرجة، من أجل التراجع عن خطوة إغلاق الأجواء الجزائرية أمام المغاربة، ها هي ذي الولاية الثانية للرئيس عبد المجيد تبون، تُفتتح بقرار آخر لا يقل رعونة وصلافة، وهو فرض التأشيرة على المواطنين المغاربة الراغبين في دخول الجزائر.
أي أنه لم يعد يكفي “تطويف” هذا المواطن الذي يريد زيارة أهله أو ممارسة عمله فوق تراب الجزائر. واضطراره للسفر إلى دولة ثالثة، مثل تونس أو إسبانيا أو فرنسا من أجل الوصول إلى الجزائر المجاورة؛ بل بات عليه طلب الحصول على تأشيرة دخول.
تماما كما كان الحال في ولايته الأولى، التي لم يحصل عليها إلا بعدما جعل المغرب لازمة في حملته الانتخابية وهدفا أولا لتصريحاته وقراراته العدوانية، ها هو تبون يبدأ ولايته الثانية بخطوة ستبقي وصمة عار فوق جبين كل من وافق عليها ولو بالصمت والتواطؤ.
لم تكن ورقة التأشيرة قط ضمن دائرة الشد والجذب وتبادل الضربات بين النظامين المغربي والجزائري. المرة الأولى التي وجد فيها مواطنو البلدين مطالبين بالحصول على تأشيرة لدخول أرض الجيران، كانت في 1994، عندما تعرض المغرب لضربة إرهابية دموية، استهدفت فندقا يستضيف سياحا أجانب بمدينة مراكش، وكانت المؤشرات كلها تشير إلى أن المنفذين والسلاح دخلا المغرب من الجزائر.
ردّ الجيران وقتها بمنطق المعاملة بالمثل، وهذا حقّهم، لكن وعندما قرر المغرب عام 2004 إعفاء الجزائريين من تأشيرة الدخول، عملا بمنطق يقول إن كلا من الملك محمد السادس والرئيس عبد العزيز بوتفليقة لم يكونا مسؤولين عما جرى في 1994، ستتأخر الجزائر في العمل بمبدأ المعاملة بالمثلة هذه المرة، ولن تحذف التأشيرة إلا عام 2005، ما يعني أن القرار لقي مقاومة كبيرة داخل البنية العميقة للنظام.
لم يبادر المغرب إذن باتخاذ قرار فرض التأشيرة على الجزائريين دون سبب أو سياق مقنع، بل كان تحت وقع هجوم إرهابي دموي. وحتى إذا افترضنا جدلا أنه تسرّع وعاقب الجزائريين جميعهم على فعل ربما تورط فيه بعضهم، فإنه تحمّل مسؤوليته وبادر إلى حذف التأشيرة من جانب واحد وفتح الباب أمام تجاوز الخلافات.
أما السياق الذي جاء فيه القرار الجزائري اليوم، فهو يتسم بإصرار أحادي الجانب على تأزيم العلاقات وجرّ الشعبين نحو دائرة الصراع، حتى أن غياب رسائل التهنئة بين رئيسي البلدين تعود بدايته حسب ما تكشفه المعطيات المفتوحة المتوفرة، إلى أحد الأعياد الدينية الذي لم يقم الرئيس الجزائري بتهنئة الملك بمناسبة حلوله.
يثبت النظام الجزائري بهذه الخطوة الجديدة أنه مصرّ على البقاء ضمن خانة الأنظمة المتخلفة والتي تسعى في مثل هذه الفترات، أي عقب الانتخابات، إلى إظهار الحزم في قضايا الأمن والسياسة الخارجية لضمان التفاف الشعب حول القيادة وإذعانه لقراراتها.
ولا يمكن فهم قرار فرض التأشيرة هنا، إلا كمؤشر على تأكيد النظام الجزائري سياسته العدائية تجاه المغرب. كما يسعى إلى ترسيخ فكرة التهديد الخارجي لخلق شعور بوحدة الصف الداخلي في مواجهة خصم تقليدي، بعدما نجح حكام قصر المرادية في تأزيم العلاقات الرسمية بشكل غير مسبوق.
وإذا استحضرنا ردّ الفعل السخيف الذي قامت به الجزائر تجاه الاعتراف الفرنسي الأخير بمغربية الصحراء، فإننا نكون أمام خلاصة مفادها أن الجزائر تسعى إلى إضعاف المغرب دبلوماسيًا عبر فرض ما تتخيّل أنه “عزلة” عليه.
وإلى جانب القرارات السياسية، لابد من استحضار الأحداث الرياضية الكبرى كوسيلة ضغط وتكتيك دبلوماسي معروف، ويمكن أن يُستخدم لإرسال رسائل للمجتمع الدولي حول استمرار التوترات بين الجانبية ومن ثم محاولة الضغط على القوى الأجنبية لكبح المغرب الآخذ في الزحف دبلوماسيا على حساب جارته الشرقية.
ومن خلال سابقة منع رياضيين مغاربة من السفر مباشرة إلى الجزائر حيث كانت تنظم بطولة إفريقية، تريد الجزائر بقرارها الجديد هذا الذي يأتي عشية احتضان المغرب بطولة كأس إفريقيا للأمم 2025، أن تمنع جماهيرها من السفر إلى المغرب عبر استدراجه نحو قرار مماثل بفرض التأشيرة.
نعم، ليس مستبعدا أن يكون توقيت قرار الجزائر الجديد مرتبطاً باستعدادات المغرب لتنظيم كأس إفريقيا للأمم. فهي تدرك أهمية هذا الحدث للمغرب، كونه فرصة لزيادة نفوذه الإقليمي وجذب الانتباه الدولي، وقد تستخدم هذه الفرصة لزيادة الضغوط السياسية.
إذا بادر المغرب إلى الرد بفرض تأشيرات على الجزائريين، فإن الجزائر قد تحقق مكسبًا دبلوماسيًا داخليًا. سيبدو أن الحكومة الجزائرية نجحت في منع سفر مواطنيها إلى المغرب دون أن تتحمل مسؤولية مباشرة في حرمانهم من المشاركة في الحدث الرياضي. وسيكون بإمكان الجزائر حينها تبرير القرار داخلياً على أساس أن المغرب هو من اتخذ خطوة مماثلة، في محاولة لتحويل اللوم إلى الطرف الآخر.
يمثل كأس إفريقيا للأمم في الأصل فرصة للتواصل الجماهيري واللقاء بين الشعوب. وحضور عدد كبير من مواطني الجزائر في المغرب لمتابعة المباريات سيمثل دون شك وسيلة لتخفيف حدة التوتر بين البلدين، وهو ما قد لا يخدم استراتيجية حكام قصر المرادية السياسية، ويكسر دعايتهم الفجة الرامية إلى شيطنة المغرب وتشويه صورته في عيون الجزائريين.
هناك مثل شعبي يتقاسمه المغاربة والجزائريون، يقول إن “عار الجار على جارو”. والعار هنا بمعنى دارج مفاده الواجب وضرورة الوفاء والأمانة والمساندة في لحظة الضيق والأزمة.
لكن سلوك الجيران في السنوات الثلاث الماضية، بدءا بقطع العلاقات الدبلوماسية الرسمية ومرورا بإغلاق الأجواء ووصولا إلى فرض التأشيرة، يجعلنا أمام “عار” فصيح هذه المرة.