story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

طوفان العودة العظيم وإسقاط أوهام التهجير

ص ص

منذ أكثر من سبع عقود ونيف من احتلال فلسطين، لا تزال فكرة تهجير الفلسطينيين حية لدى الاحتلال الصهيوني المحمول على أكتاف مشروع استيطاني استعماري والقائم على سياسة الاقتلاع والإحلال، والمسنود من رعاته في العواصم الغربية الكبرى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.

فمنذ بداياته، سعى الاحتلال إلى إفراغ الأرض من أصحابها الشرعيين وتجريده من هويتهم وحقوقهم، وإحلال مستوطنين مكانهم لتغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي.

ومنذ أن بزغ هذا المشروع في وعد بلفور المشؤوم، كان الدعم الغربي العنصر الأساسي في تمكينه وتعزيزه. مشروع كان ركنه الأساسي تهجير الفلسطينيين قسرا من قراهم ومدنهم عبر سلسلة لا تنتهي من الجرائم، بدءا بالحروب الشاملة التي أبادت القرى وهجرت سكانها، مرورا بالمجازر التي لا تزال محفورة في ذاكرة الفلسطينيين كندوب أبدية، وليس انتهاء بسياسات الهدم الممنهجة، ومصادرة الأراضي، وتجريف المزارع، التي تهدف إلى خنق الفلسطيني في أرضه، ودفعه إلى تركها قسرا.

وفي الوقت ذاته، منح الموقف الدولي المتخاذل والمتسم بالتردد تجاه هذه الجرائم الاحتلال غطاء لمواصلة تنفيذ مخططاته بلا رادع، وبينما تستمر آلة الاحتلال في التهجير، يظل الشعب الفلسطيني متمسكا بحقوقه المشروعة، مؤكدا أن الأرض لا تعود إلا لمن يتمسك بها ويقاوم من أجلها.

بدأ مسلسل التهجير سنة 1948 حين خرج الفلسطينيون من ديارهم وقراهم محملين بحلم العودة القريبة، واثقين أن هذا الخروج لن يكون سوى غياب مؤقت عن أرضهم وبيوتهم التي احتضنت أجيالهم عبر قرون. وكان مرد هذا الاعتقاد الذي ترسخ في وجدانهم استنادا إلى تجارب تاريخية مروا بها، حيث سبق لهم أن عاشوا ظروفا مشابهة خلال الحرب العالمية الأولى حين اندلعت حملة سيناء وفلسطين بهجوم القوات البريطانية على القوات العثمانية بين عامي 1915 و1918.

في تلك الفترة، كانت “غزة” نقطة محورية في الصراع وشهدت ثلاث معارك شرسة بين مارس ونوفمبر 1917 انتهت بسقوطها ثم تلاها سقوط القدس في ديسمبر من العام نفسه. ورغم المعاناة التي رافقت هذه الأحداث، عاد الفلسطينيون حينها إلى أراضيهم فور انتهاء الحرب، ما عزز لديهم الاعتقاد بأن هذه التجربة ستتكرر.

لكن تجربة النكبة كانت مختلفة تماما؛ بحيث لم يكن خروجهم من أرضهم وديارهم نتيجة ظرف عابر أو صراع مرحلي، بل كان جزءا من مخطط استعماري صهيوني محكم، يهدف إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره، وإفراغ الأرض من سكانها الشرعيين لزرع كيان استيطاني غريب.

وبالرغم من قسوة التجربة ومرارتها، ورغم المحاولات المستمرة لطمس هويتهم وذاكرتهم، ظل الفلسطينيون متمسكين بحلم العودة إلى أرضهم التي هي بالنسبة لهم ليست مجرد مكان للإقامة، بل هي جزء لا يتجزأ من هويتهم ووجودهم. وبذلك لم تفلح محاولات الاحتلال في محو ذاكرتهم التي بقيت حية ومتقدة في عقول وقلوب الأجيال المتعاقبة.

وفي سنة 1967، واجه الفلسطينيون مرة أخرى مأساة الاحتلال بشن القوات الصهيونية حربا توسعية جديدة أدت إلى احتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع ذلك، كانت موجة النزوح الفلسطيني هذه المرة أقل حدة مقارنة بما حدث خلال نكبة 1948.

فقد تعلم الفلسطينيون درسا مريرا من تجربة التهجير السابقة، وفهموا أن مغادرة الأرض تعني تمكين الاحتلال من تنفيذ مخططاته الاستيطانية التي تهدف إلى اقتلاع جذورهم وإحلال المستوطنين مكانهم. وأدركوا أن الأرض ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي جوهر وجودهم، وأن خسارتها تعني خسارة هويتهم وتاريخهم وكرامتهم.

وفي ظل هذا الوعي المتزايد، صمد الفلسطينيون في قطاع غزة كما لم يصمدوا في أي مكان آخر، متحدين سياسات الاحتلال الرامية إلى إفراغ الأرض من سكانها الشرعيين. فقاوموا بكل الوسائل المتاحة، وتمسكوا بأرضهم رغم الظروف القاسية والضغوط المتزايدة التي شملت الحصار والاعتداءات المستمرة.

ولم يكن هذا التشبث مجرد موقف عابر، بل تجسد في كل تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، الذين واصلوا بناء مجتمعهم، وحافظوا على روايتهم التاريخية، وورثوا أبناءهم قيم المقاومة والانتماء.

وهكذا، تحولت غزة –التي قال عنها رئيس وزراء الكيان السابق “إسحاق رابين” : “أتمنى أن أستيقظ ذات يوم من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر”– وغيرها من المناطق الفلسطينية إلى حصون مقاومة، تجسد روح التحدي الفلسطيني أمام أعتى مشاريع الاستيطان والاقتلاع.

وظل الفلسطينيون، رغم كل ما تعرضوا له، أوفياء لقضيتهم، مؤمنين بأن صمودهم هو الضامن الحقيقي لبقاء قضيتهم حية، ولتحقيق حلمهم بالحرية والعودة مهما طال الزمن.

ومع اندلاع هذه الحرب التي لا تزال بعض فصولها مفتوحة، بدا واضحا أن فكرة التهجير عادت لتطفو على السطح كأحد الحلول المطروحة في أذهان العديد من القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. فقد أظهر الرئيس الأمريكي “جو بايدن” وغيره من القادة الغربيين في تصريحاتهم ومواقفهم تلميحات إلى رؤية التهجير كجزء من “حل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي”.

هذه الفكرة القديمة/الجديدة، وإن بدت مستترة في بعض الأحيان، إلا أنها اتخذت طابعا أكثر وضوحا وجرأة خلال الفترة الرئاسية الأولى ل”دونالد ترامب” الذي طرح “صفقة القرن” التي تضمنت في جوهرها مقترحات لإعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى وإلغاء حقهم التاريخي في العودة إلى أرضهم.

واليوم يعود “ترامب” بعد أسبوع فقط على اتفاق وقف إطلاق النار بتصريحات خطيرة تدعو بشكل صريح إلى ترحيل سكان قطاع غزة إلى دول الجوار، في محاولة منه استكمال ما فشلت فيه حكومة “نتنياهو” في تحقيقه خلال الحرب عبر تحويل الأفكار الصهيونية المتطرفة إلى سياسات قابلة للتنفيذ عبر الضغط السياسي والإغراءات الاقتصادية.

واليوم، ومع انطلاق طوفان العودة العظيم الذي تزامن مع ذكرى الإسراء والمعراج، يقف العالم شاهدا على مشاهد مهيبة تعكس عظمة الصمود الفلسطيني وصلابته في مواجهة آلة التقتيل والتدمير. ففي ظل هذه اللحظات التاريخية، تسقط كل مخططات التهجير والاقتلاع التي سعى الاحتلال لفرضها عبر عقود من الجرائم والحصار.

تسقط هذه المخططات سقوطا مدويا أمام إرادة الفلسطينيين الذين لم يتخلوا يوما عن حقهم في أرضهم، وأصبح حلم العودة الكبرى أكثر قربا وواقعية من أي وقت مضى. فبعد 15 شهرا من الدمار المتواصل، وبعد معاناة شديدة عاشها أبناء قطاع غزة، يعود مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى شمال القطاع، إلى أراض شهدت ميلاد أجدادهم، وشهدت صمودهم وتضحياتهم.

هذه العودة ليست مجرد حركة بشرية أو جغرافية، بل هي فعل مقاومة ورمز لانتصار الإرادة الفلسطينية على كل محاولات التهجير والتصفية، وبصبر أولئك الذين تحملوا القهر والجوع والحصار دون أن يفقدوا إيمانهم بالعودة. إنها لحظة تتجاوز البعد الزماني والمكاني، لحظة تتحدث عنها الأرض قبل أن ترويها السماء، لحظة تصرخ فيها الصخور والأشجار: “هنا عاد أصحاب الحق، هنا لم تفلح يد المحتل في سرقة التاريخ أو طمس الهوية”.

ولو أن المقاومة الفلسطينية استجابت لأصوات الانهزام التي دعت إلى التخلي عن السلاح والانحناء أمام الضغوط، لكانت قضية الشعب الفلسطيني وهوية الأرض قد سقطت في هاوية سحيقة، وعلى رأسها فصل شمال غزة عن جنوبها، وتحقيق أطماعه في تحويل القطاع إلى بقعة مشتتة من الكانتونات المعزولة التي يسهل السيطرة عليها.

وفي ظل هذا السيناريو المظلم، لكانت غزة، قد تحولت إلى مشهد للطغيان والاستبداد، ولشاهدنا اليوم مستوطنين يجوبون شمال القطاع دون أي رادع، يبنون المستوطنات فوق أنقاض البيوت التي كانت يوما مأوى للأسر الفلسطينية، ويقيمون حقائق جديدة على الأرض، تُغرق الوجود الفلسطيني في طي النسيان.

ولكانت الأرض التي احتضنت أجساد الشهداء وارتوت بدمائهم الطاهرة قد اغتُصبت بلا هوادة، ولتحولت معالمها التاريخية، التي شهدت صراع الأجيال من أجل الحرية إلى رماد.

لكن المقاومة، بوعيها العميق لمسؤوليتها التاريخية وبإيمانها الراسخ بعدالة قضيتها، رفضت أن تُساوم على كرامة الشعب الفلسطيني أو على حقوق الأجيال القادمة. لم تر في السلاح مجرد أداة للقتال، بل اعتبرته رمزا للكرامة الوطنية، وأيقونة للصمود في وجه الطغيان.

فقد أدركت منذ نشأتها أن التخلي عن السلاح يعني الاستسلام لإرادة المحتل، والسماح له بتنفيذ مخططاته دون مواجهة. لذلك، اختارت المقاومة طريق المواجهة مهما بلغت التحديات، وتمسكت بالعهد الذي قطعته أمام شعبها، ألا تترك الأرض فريسة للاحتلال، وألا تسمح بتمزيق النسيج الوطني والجغرافي الذي يربط الفلسطينيين بأرضهم وحقوقهم.

بهذا الثبات، أثبتت المقاومة أنها الحصن الأخير في مواجهة مشاريع الاحتلال، وأنها قادرة، بإيمانها وإصرارها، على إفشال كل المحاولات الرامية إلى محو الوجود الفلسطيني.

إنها قصة نضال تتحدث عنها الأرض والسماء، وترويها دماء الشهداء وأصوات الأمهات الصامدات، معلنة أن الكرامة لا تُباع، وأن الحرية تُنتزع ولا تُمنح، وأن المقاومة هي السبيل الوحيد لتحقيق العدالة واستعادة الحقوق.