story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

طوفان الأقصى.. خلاصات أولية

ص ص

ثلاثة أيام بعد دخول الهدنة حيز التطبيق، وانطلاق عمليات تبادل الأسرى بين حركة حماس وسلطات الاحتلال، تتدافع الأحداث والتطورات على جميع الجبهات الداخلية والخارجية أمام القطاع المدمر، وتتعدد الأولويات وتختلط أوراق الحسابات وفق تغير مواقف الأطراف الداعمة أو الضامنة أو المعادية.

وإذا ما أردنا أن نجزم بخصوص تبعات عملية طوفان الأقصى، فإن الثابت هو تغير قواعد الصراع داخليا، وإقليميا، ودوليا.

لا يمكن أن نخوض في محاولة تفكيك الخيوط المتشابكة لتطورات 471 يوما من حرب الإبادة ضد أهالي غزة دون تقييم لنتائجها. من الناحية العسكرية، فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه على الأرض بعدما استمرت حركة حماس وفصائل المقاومة في حرب الاستنزاف، بل تمكنت من تعويض خسائرها البشرية وإعادة ترميم كتلتها العددية، وتجديد عقيدتها القتالية وطرق مناجزتها للعدو، واستطاعت في آخر أيام الحرب مضاعفة خسائر الجيش الإسرائيلي، وإفشال خطط التأمين العسكري لمناطق سبق للعدو أن أعلن تحييدها، ناهيك على خسائر كبيرة في العتاد العسكري وثقها أكثر من 400 فيديو للأذرع الإعلامية للمقاومة الفلسطينية على مر أيام القتال.

من جهة ثانية، ظهر مستوى الفشل الإسرائيلي جليا في عجزه عن استرجاع الأسرى باستثناء عملية نوعية أعادت أربع أسرى خلال يونيو الماضي.

ويمكن أن نسوق بيان القيادات العسكرية الإسرائيلية المستقيلة بعد اتفاق الهدنة (قائد الأركان هرتس هليفي، قائد القيادة الجنوبية يارون فنكلمان) كإقرار بفشل الجيش الإسرائيلي في التصدي لعملية طوفان الأقصى بتاريخ 7 أكتوبر ، وعدم تحقق أهداف الحرب كما أعلن عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي وقادة الجيش.

في سياق تقييم خسائر المقاومة، أظهرت حركة حماس في أول أيام الهدنة صورة تكشف عن تماسكها، وتمكنها من ضبط الوضع على الأرض.

وجاءت الوثائق السمعية والبصرية وتصريحات القادة الميدانيين لتكشف المزيد عن العملية النوعية من حيث استباق عملية طوفان الأقصى لمخططات التطبيع الممنهج، والاستعداد لإقبار حل الدولتين والاجتياح المخطط مسبقا له من الجيش والاستخبارات والحكومة الإسرائيلية، والذي كان على بعد أيام قلائل من السابع من أكتوبر 2023.

ويمكن الجزم أن ما حدث في عملية الطوفان إعجاز استخباراتي لطبيعته المفاجئة للمنظومة الاستخباراتية الإسرائيلية المتطورة عتادا وتدريبا وإمكانيات، ونقلة نوعية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتغيير لمعالمه السابقة.

أولا: من الناحية اللوجستية، مكن طوفان الأقصى المقاومة الفلسطينية من تطوير بنية تحتية لصناعة الأسلحة وإعادة تدوير العتاد وإعادة بناء الكتلة البشرية، تحت أقصى ظروف القصف والعدوان المستفيد من أعلى درجات الدعم العسكري الغربي والحماية الدبلوماسية للعدو، والخذلان والتفرج، بل الدعم المادي من المحيط العربي المجاور الممعن في الحصار.

وإذا كانت ضربة الطوفان مفاجئة للعالم، فإن انهيار الدفاعات الإسرائيلية، جعلت مستوى التدمير وحرب الإبادة هي الأعتى على مر التاريخ، مما فاق خيال العدو قبل الحليف.

ثانيا: إن درجة الصمود العسكري واستمرار العمليات النوعية والاشتباكات وإسقاط القتلى حتى ساعات قليلة قبيل دخول اتفاق الهدنة حيز التنفيذ (مقتل 15 ضابطا وجنديا وإصابات العشرات خلال الأسبوع الأخير قبل اعتماد الاتفاق)، وإقبار معدات عسكرية بشكل غير مسبوق (دبابات الميركافا وناقلات الجنود النمر نموذجا)، وتعزيز بنى الاتصال الخاصة بالمقاومة على مدى 471 يوما من القتال، يحيل على خلاصة استحالة السيطرة على قطاع غزة الذي لا تتعدى مساحته 360 كلم مربعا، والقضاء على حركة حماس (تصريح دانيال هاغاري المتحدث باسم جيش الاحتلال الذي أقر باستحالة القضاء على حماس).

ثالثا: على الرغم من الحروب القصيرة المتتالية منذ 1948، تظل معركة الطوفان هي الأعنف والأقسى والأعلى كلفة للشعب الفلسطيني. فلأول مرة في تاريخ الصراع، يشن جيش الاحتلال حملة تقتيل وإبادة وتجويع وتدمير للبنى التحتية، واستهداف لكل مقومات الحياة مخلفا أكثر من 50 ألف شهيد و100 ألف مصاب، أغلبهم من النساء والأطفال، وتسوية بالأرض لكل التجمعات السكنية ومخيمات اللاجئين المتركزة في القطاع إثر حروب 1948 و1967.

المؤشر الأكثر دلالة هو تغير نقسي وعاطفي. فقد تحول شعب غزة إلى كتلة بشرية تحمل ندوبا وثارات شخصية عززت الحمولة الجماعية الدينية والقبلية. بالنسبة للشعب الغزِيِّ، لا مجال لخسارة أكبر مما عاشه خلال حصار داخل أكبر سجن مفتوح منذ 2007، وحرب تكالب غربي من خلال الدعم العسكري والسياسي لدولة الاحتلال عليه طيلة 471 يوما.

الحرب الحالية مختلفة عن سابقاتها، فهي حرب استئصال لا تتيح النزوح إلى أجزاء أخرى من فلسطين التاريخية كما كان الحال في حربي 1948 و1967، بل تفتح الباب إلى خروج من الأرض وتصفية للقضية في سياق تراجع الأطراف العربية، وتماهي المطبعين مع الرؤية الإسرائيلية وتنزيل خطط التهجير المدعومة أمريكيا (آخرها دعوة الرئيس ترامب الأردن ومصر إلى استقبال المهجرين من غزة).

اللازمة التي يؤمن بها أهل غزة اليوم أكثر من الأمس، والتي يسعون لتنزيلها أمام عدوهم على أرض غزة “نحن أو نحن، لا خيار لهم أمام نحن”.

رابعا: خاضت المقاومة الفلسطينية حربا إعلامية غير مسبوقة، ومازالت مستمرة في تنزيل خطها التحريري المبني على سردية ذات بعدين.

البعد الأول يحمل الاطمئنان لأهل غزة، وشعب فلسطين ولكل الأحرار عبر العالم، من خلال تصوير فصول القتال الضاري المجسد للآية “فإنهم يألمون مثلما تألمون، وترجون من الله مل لا يرجون”، ودحض الاتهامات بالتخاذل والدفع بالشعب الغزِيِّ للتهلكة في اللحظة المناسبة وبالأسلوب الراقي والمؤثر (مشاهد استشهاد يحيى السنوار نموذجا).

البعد الثاني مرتبط بالحرب النفسية على المجتمع الإسرائيلي المنقسم حول نفسه، والفاشل في تشكيل اللحمة الحقيقية بسبب صفته الطارئة وغياب عمق تجذره بالأرض، واختلاف مناشئه وأصوله وثقافاته.

تشكل مظاهر تحرير الأسرى الإسرائيليين والفلسطينيين والنقاشات المفتوحة في وسائل الإعلام الإسرائيلية أكبر دليل على وصول المقاومة لتحقيق هدف مهم نجمله في الخلاصة التالية: بعد طوفان الأقصى، المجتمع الإسرائيلي ومفاصل الدولة أكثر انقساما، والشعب الفلسطيني أكثر إيمانا أن التحرر أقرب وأن المقاومة سبيله الأنجع.

هذه بعض الخلاصات لحرب غير مسبوقة، ستكون لها مآلات وتحديات كبرى نخوض فيها في المقال القادم.