story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

طوفان الأقصى .. انتصارات بحجم دماء الشهداء

ص ص

تضع حرب غزة أوزارها، بعد ما يقارب 470 يوم من بدايتها، أي حوالي سنة وثلاثة أشهر من العدوان والحرب غير المسبوقة، وهي حرب من دون شك مرتفعة الثمن، بل إنها الأغلى تكلفة على الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور إلى يومنا هذا. وضعت الحرب أوزارها بالإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار، الذي جاءت مخرجاته مناقضة وناقضة لكل الأهداف التي أعلنها قادة الكيان الغاصب منذ بداية حرب التطهير العرقي بغزة، بحيث تم التفاوض مع المقاومة الفلسطينية ممثلة في حماس لا مع غيرها، وتم إبرام صفقة لتبادل الأسرى بدل تحريرهم بقوة النار، وتم وقف الحرب قبل تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، وسيتم الانسحاب من غزة ومن كل محاورها الاستراتيجية، خاصة منها محوري نتساريم وفيلاديلفيا، هذا فضلا عن ضمان حرية تحرك أهل غزة في كل ترابها بعد أن كان الهدف المعلن هو تهجيرهم إلى جنوب غزة، وقبل ذلك إلى سيناء، كما سيتم فتح المعابر بما يمكن من تسهيل حركة الأشخاص وخروج الجرحى من أجل تلقي العلاج، ونقل البضائع وإدخال المساعدات والمعدات، على أن يتم بعد كل هذا الشروع في إعادة إعمار غزة التي حولتها الهمجية الصهيونية إلى خراب.

وبالرغم من هذه الصورة الواضحة، وبالرغم من أثرها البين على الوضع الداخلي الصهيوني، فقد خرج البعض ممن لم يروا في كل هذا الذي وقع، إلا مغامرات ونكسات وإخفاقات وخيبات تسببت فيها المقاومة لأهل غزة، ومن ذلك الخسائر الكبيرة في الأرواح والعمران، بل إن منهم من اعتبر مضامين الاتفاق الذي تم هي خير دليل على هزيمة المقاومة. فهل صحيح أن خلاصة هذه الحرب والعدوان هي هزيمة مكتملة الأركان للمقاومة، وهي في المقابل انتصار كبير للكيان الغاصب؟

مقدمات منهجية

منهجيا، لا يمكن أن يتم تقييم ما وقع بمرسل القول ولا بسيولة الكلام، وبدون تحديد مرجعيات التقييم، بما يمكن من النظر إلى ما وقع نظرة أقرب إلى ”الموضوعية” ما أمكن ذلك.

إن أول مقدمة منهجية ينبغي استحضارها حين تقييم ما وقع بغزة، هي أن الاختلاف في وجهات النظر وموازين التقييم، إنما يكون باختلاف المواقع والمواقف. وبعيدا عن التخوين والاتهام، ومع ضمان الحق المطلق للجميع في حرية الرأي والتعبير، فلا شك أن الاختلاف حول الحق في المقاومة، ورفع لوائها وبذل الغالي والنفيس من أجل دفع وردع المعتدي، هو أمر قديم ومتجدد. وعلى سبيل البيان، فإن أدنى هذا الخلاف شرا وسوءا، أن يفضل المرء أن يدفع الظلم وينال حريته من سبيل غير سبيل مواجهة أولي الشوكة والبأس، ”وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ”، و”كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ”، وهذا سلوك إنساني طبيعي، بما هو طمع في تحصيل المنافع بدون عنت ولا تضحيات، ومن دون ابتلاءات بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وأعلى هذا الخلاف شرا وسوءا هو أن يكون سلوك المرء تخذيلا وإرباكا وتشفيا، واستهزاء بالمقاومين ورغبتهم في النصر والتحرير، وكون القيام بواجب دفع الظلم إنما هو غرور ومغامرة ومقامرة. ومن عظيم الشر والسوء أيضا، أن يتم التخويف بالقلة في العدد والعدة، والترهيب من كثرة العدو وشوكته، وقد حدث مثل ذلك في غزوة بدر، “إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.

وثاني هذه المقدمات المنهجية، أن التقييم إنما يكون باستحضار المرجعيات والسياقات والإرادات، ذلك أن مرجعية أهل غزة وقوى المقاومة التي خبرت الاحتلال وذاقت مرارة ظلمه وحصاره وعنصريته وهمجيته لمدة عقود من الزمن، لا يمكن أن تكون هي نفس مرجعية من يرى في الكيان الغاصب قدرا محتوما، أو أسوأ من ذلك بحيث يرى فيه، صديقا أو حليفا، أو صاحب حق، أو نموذجا متقدما للمدنية والتحضر، بما هو “أمة ديمقراطية” مكتملة الأركان تستحق الاحترام، خاصة وأنها ”نقطة الضوء” الوحيدة في محيط من التخلف والاستبداد. لا شك أن تقييم حرب غزة ونتائجها سيكون مختلفا كليا بين أصحاب هاتين المرجعيتين.

وسيكون نفس هذا الاختلاف حاصلا حين قراءة سياقات تاريخ الكفاح الفلسطيني وتقدمه بخطى واثقة في درب الحرية والتحرير، وسياقات هذه الحرب في ظل موازين القوى الدولية والإقليمية، بين الخاضع لإكراهاتها وإملاءات قواها الكبرى وبين الباحث في ذلك عن منافذ للمقاومة ومداخل للممانعة. كما أن هذا التقييم سيتباين أيضا من منطلق اختلاف الإرادات والغايات، إرادة المقاومة والتحرير وإرادة الاستسلام والخنوع، وهو الأمر الذي يميز غايات المقاومة والمقاومين في مقارنة لها بغايات المطبعين والمهرولين والمستسلمين.

ثالث هذه المقدمات المنهجية وآخرها، هي أن التضحيات إنما تكون بحجم التحديات والغايات، ومعلوم أن تاريخ القضية الفلسطينية، وتضحيات شعبها الباسل المقاوم لم تبدأ في السابع من أكتوبر، فمنذ مجزرة حيفا سنة 1937، إلى اليوم هناك عشرات المجازر التي ارتكبها الكيان الغاصب في حق الشعب الفلسطيني، من مثل مجازر كفر قاسم، ودير ياسين وصبرا وشاتيلا والحرم الإبراهيمي وجنين وغزة، وغير ذلك مما هو معلوم ومشهور. وقبل شهداء وجرحى طوفان الأقصى كان هناك عشرات الآلاف من الشهداء والثكلى واليتامى، وكل هذه التضحيات إنما هي في سبيل غاية عظمى لا سبيل لنيلها بغير ذلك، فتحرير أرض الإسراء والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين تستحق أن يبذل في سبيلها الغالي والنفيس، ولذلك لن يفهم من لا يستحضر هذا الأمر ما يجري على ألسنة أهل غزة، نساء ورجالا، من أقوال من مثل قولهم مرارا وتكرارا وفي ذروة العدوان: “يارب خذ من دمائنا حتى ترضى”، و”الكل فداء لفلسطين والمقاومة”.

منجزات .. ولعلها انتصارات بحجم دماء الشهداء

مباشرة بعد الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، بدأ الحديث عن المكاسب والخسائر، ومن المنتصر ومن المنهزم؟ وهل الاتفاق المعلن يعكس حجم التضحيات والخسائر والدمار والخراب الذي حل بغزة لمدة سنة وثلاثة أشهر؟ وهل الكيان المجرم حقق أهدافه؟ وهل حماس وقوى المقاومة استطاعت فرض إرادتها على المحتل الغاشم، وبذلك هي التي تقدمت خطوات كبيرة في مسار الحرية والتحرير؟

إن أول المنجزات الاستراتيجية التي أنجزتها المقاومة من خلال معركة طوفان الأقصى، هو أنها أخرجت القضية الفلسطينية من غرفة الإنعاش، ومن الموت السريري، ومن سراديب المؤامرات، ومن متاهات التطبيع. فقبل السابع من أكتوبر كانت أولويات القوى الكبرى قد أخرجت من أجندتها القضية الفلسطينية إخراجا تاما، بحيث استقرت السياسات والقرارات والمواقف على أن القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين لم تعد أمرا يستحق الاشتغال به. ولعل ذلك ما يفسر ردود الفعل الأولى والعنيفة والمساندة بدون شرط ولا قيد للكيان الغاصب مباشرة بعد بداية طوفان الأقصى. وخلافا لهذا السيناريو، ولمدة سنة وثلاثة أشهر أصبحت القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني أولوية العالم وقضيته الأولى، كما أصبحت موضوعا رئيسيا لقمم الرؤساء والوزراء واجتماعاتهم وحواراتهم، فضلا عن أنها احتلت الفضاء الإعلامي بحيث صارت موضوعه الرئيسي والمركزي. وكان أيضا من منجز المقاومة أن بات الإجماع واقعا على ضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وأن أي استقرار في “الشرق الأوسط” والعالم هو رهين بذلك.

ثاني المنجزات الاستراتيجية لطوفان الأقصى هو كسر شوكة الكيان الصهيوني، وتهشيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فلأول مرة منذ وعد بلفور هاجم الفلسطينيون العدو الصهيوني ودخلوا إلى حصونه وأسروا جنوده، كذلك قال ذات يوم السنوار، “الآن نغزوهم ولا يغزونا”. ولم يكن الكيان الغاصب ولا حلفاؤه، يظنون يوما أنهم سيتعرضون لهجوم فيه من التفوق الاستخباري والعسكري ما لم يعد ينكره أحد، ولا أحد توقع أن تصمد غزة لمدة 470 يوم، وأن تخوض المقاومة حرب استنزاف وإذلال لأحد أقوى جيوش العالم، ولم يكن أحد يتصور أيضا، مع كل الهمجية والتقليل والتدمير، أن تصمد المقاومة وتكبد جيش الاحتلال خسائر لم يسبق لها مثيل. بل إن الكيان الغاصب ومعه كبرى القوى العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وبالرغم من كل ما استخدموه من تكنولوجيا وتقنيات الاستخبار والرصد والتتبع، لم يستطيعوا الوصول إلى الأسرى وافتكاكهم بالقوة، وهذا وحده منجز يستحق التنويه والإعجاب وربما الاستغراب. وفضلا عن كل هذا المنجز العسكري، فقد صمدت المقاومة واستمرت في معاركها إلى حين توقيع الاتفاق، وما رافق ذلك من الحفاظ على قدراتها القتالية، وإيلام جيش الاحتلال بخسائر بالجملة في الجنود والعتاد.

ثالث المنجزات الاستراتيجية وغير المسبوقة لطوفان الأقصى، هو تغيير الموقع القانوني لدولة الاحتلال وقادتها السياسيين والعسكريين. فلأول مرة في تاريخ الصراع مع الكيان الغاصب تكسب القضية الفلسطينية معارك قانونية على مستوى المحكمة الجنائية الدولية، وما قضت به من إثبات لجرائم الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب، وإصدار أوامر بالاعتقال في حق قادة الاحتلال. وقد رافق هذا المنجز فتح الباب واسعا، بناء على ما سبق، لمتابعة الجنود والقادة العسكريين وإمكانية اعتقالهم ومحاكمتهم في 120 دولة. وإذا كان العدو قد تمكن من حصار الفلسطينيين وسجنهم في سجن غزة المفتوح لسنوات عديدة، فإن دماء الشهداء من النساء والشيب والولدان ستحاصر في المستقبل عدد غير محدود من المجرمين الصهاينة، وستسجنهم في سجن مفتوح بفلسطين المحتلة، بحيث تجعلهم يفكرون ألف مرة قبل التوجه إلى المطار بغرض السفر.

رابع المنجزات الاستراتيجية لطوفان الأقصى، هو اختراق الوعي العالمي وتحويل مركز التعاطف من تعاطف شبه تلقائي وتفهم دائم لوضع دولة الكيان الغاصب وجرائمها، إلى إدانتها والاحتجاج على ما تقوم به من حرب إبادة وتطهير عرقي، والمطالبة بتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة. فلم يسبق في تاريخ القضية الفلسطينية أن كان لها كل هذا الحجم من التعاطف، والذي تجلى في عشرات المظاهرات المستمرة والحاشدة في المدن والعواصم الغربية، فضلا عن الاحتجاج الواسع على السياسيين من رؤساء ووزراء وإحراجهم، بل واتهامهم بالمشاركة في حرب الإبادة، والخضوع للكيان الغاصب وعدم القدرة على ردعه. والمثير للانتباه في هذا السياق، هو أن هذا الاختراق تم في كثير من أوجهه في مراكز الوعي ومواقع التأثير في الرأي العام، أي في الجامعات وفي فئات الشباب والمثقفين وصناع الرأي، وهذا اختراق نوعي سيكون له ما بعده.

خامس هذا المنجزات الاستراتيجية وآخرها، هو التغيير الجوهري في معادلة معركة التحرير، وذلك بالانتقال من طلب النصرة إلى الاعتماد على عقول وسواعد أبناء المقاومة الفلسطينية. ففي معركة طوفان الأقصى لم تنتظر المقاومة توفر الشروط الخارجية الإقليمية والدولية لمواجهة المحتل ومهاجمته، ولم تطلب دعم دول الطوق والجوار لتحقيق التقدم في معركة التحرير، بل إنها خاضت أكبر معركة في تاريخ المقاومة الفلسطينية إلى حدود اليوم، بقرار مستقل وبناء على مقدراتها الذاتية تخطيطا وتنفيذا وصمودا.

ختاما، هل حققت المقاومة النصر الكامل؟ هل هزمت الاحتلال؟ هل حررت فلسطين؟

لكل واحد منا الحرية في الإجابة على هذه الأسئلة بحسب قناعاته وحساباته ومواقعه ومواقفه، لكن الثابت في كل ما حصل خلال هذه الحرب، هو أن الكيان لم يستطع أن يحل في غزة أو يحتلها، ولم يزح المقاومة ولم ينه تواجدها، ولم يكمل خططه. والثابت أيضا أن المقاومة الفلسطينية قد قطعت مسافة كبيرة في مسيرة التحرر والتحرير، وأنها هشمت شوكة الاحتلال وكسرت إرادته وزادت من تشتيت وحدته، وتقدمت به مسافات مقدرة في مسار نهايته واندثاره.

لكن هل يعني هذا الذي أوردناه أن المقاومة لم تتكبد خسائر كبيرة؟ وهل يعني أنها لم تألم وتتألم؟ وهل الأذى لم يلحق أهل غزة؟ لا أظن أن هناك عاقل يقول بذلك، ولا أحد يمكنه أن ينفي عن المقاومة إمكانية التقصير أو الزلل، والمؤكد أيضا أن هذه الأخيرة، ستجلس بعد أن تضع الحرب أوزارها، وستقوم بتقييم أوضاعها وتجربتها، وستبدأ بعد ذلك رحلة أخرى في طريق الحرية والتحرير.

لكن الأهم مع ذلك وبعده، أن جيلا جديدا خرج إلى الوجود مع طوفان الأقصى، وهو الجيل الذي سيقود بعد حين معارك أخرى أشد بأسا وأكثر إيلاما للاحتلال، وذلك بعد أن تمكن جيل الانتفاضة من قيادة معركة طوفان الأقصى، وما سبقها من معارك، وقدم لأجل ذلك تضحيات جسام، ومنها استشهاد خيرة القادة والساسة.

وصفوة القول، إن من لم يستطع رؤية الهزيمة في أعين قادة الصهاينة، ومن لم يرى دموع الهزيمة تذرف من أعينهم، ومن لم ير الأسى والتردد يلعثمان ألسنتهم، يصعب عليه أن يرى بشائر النصر في ابتسامة الغزاويين، كما سيعسر عليه أن يفهم أن كل الحكاية، على قسوتها، كانت بغرض كسر الإرادة والصمود والتخويف من خوض معارك الحرية والتحرير، وعليه من لم تنكسر إرادته، ومن لم تحد عينه عن الأقصى، وهو شاهد أو شهيد، هو على طريق النصر اليوم وغدا، “إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا”.

*محمد أمحجور