story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

طلبة الطب.. كُلوا البطاطس!

ص ص

تنطلق اليوم في كليات الطب والصيدلية امتحانات الدورة الثانية، في جو تخيّم عليه عصا غليظة تلوّح بها السلطة في وجه الطلبة المصرّين على الإضراب والاحتجاج.
يعلم الجميع أن خمسة أفواج على الأقل، أذا استثنينا طلبة السنتين السادسة والسابعة، قضوا سنة بيضاء لم يدرسوا ولم يتدرّبوا فيها. وكل ما يهم الحكومة بعد “خراب مالطة”، هو إجراء امتحانات تحت التهديد باحتساب الأصفار في نتائج السنة الجامعية، أو تحمّل عقوبات تأديبية، وربما جنائية، في حال الإصرار على الإضراب والاحتجاج في اليوم الذي قررته الحكومة موعدا للامتحانات.
لن ننتظر مرور السنوات ولا العقود حتى نقرأ صفحات هذا الفصل الأسود الجديد في التاريخ المعاصر للمغرب. نحن اليوم بسدد إنهاء سنة سوداء تعاملت فيها الدولة مع احتجاج طلابي بسيط، لمنطق “طلع للجبل” و”سير تضيم”، وتجاهلت المحتجين طيلة شهور، إلا ما تذكرتهم به بين الفينة والأخرى من عقوبات وقرارات سلطوية بحل نوادي طلبة الكليات، وفي النهاية تجرى الامتحانات تحت التهديد، بل والابتزاز، بما أن الحكومة ودون أن يرفّ لها جفن، تساوم المحتجين بالعقوبات السابقة الصادرة في حقهم، مؤكدة أنها لم تكن عقوبات مستحقة، بل مجرد تعسّف لكسر الحركة الاحتجاجية.
هناك أشياء إيجابية كثيرة في التصريحات الحكومية لليومين الماضيين، مثل رفع عدد المناصب المالية المخصّصة لكل من مباراة الإقامة ومباراة “الداخلية” ابتداء من يناير 2025، لتتناسب مع تخرج دفعتين خلال السنة نفسها، مع إمكانية اعتماد برمجة متعددة السنوات لهذه الزيادة في عدد المناصب؛ واستدراك فترات التدريب الاستشفائية التي تمت مقاطعتها، انطلاقا من الموسم الجامعي المقبل؛ مع وعد بالرفع من التعويضات عن التداريب الاستشفائية الإلزامية المخولة للطلبة المتدربين الداخليين…
كل هذا جميل، لكنه متأخر جدا، ولا يمنح الحكومة أي مبرر للتعسف أو استعمال عصا السلطة لفرض نهاية متعسفة لحركة احتجاجية مشروعة وسلمية. ماذا كانت تفعل هذه الحكومة منذ نهاية العام 2023؟ لماذا غابت الحلول التي يقدمها رئيس الحكومة ووزراؤه اليوم في “الدقيقة 90″؟ ألهذه الدرجة تستهين الحكومة بتكوين طلبة الطب والصيدلة، وترفض الاعتراف لهم بالحق في خوض تحرك احتجاجي سلمي ومبرر؟
ظهر رئيس الحكومة مساء أمس في واحد من اللقاءات شديدة الترتيب التي يظهر فيها بين الفينة والأخرى، وهو يلمز إلى أن هناك من بين الطلبة من يحمل أهداف أخرى غير تلك المعلنة، مؤكدا خطاب وزراء آخرين وأصوات من صفوف الأغلبية الحكومية، اتهمت متزعمي احتجاجات الطلبة ب”التسييس”.
غريب هذا الإصرار البليد على اعتبار الانتماءات والميولات السياسية للبشر خطيئة وسببا للإقصاء والقمع. ما هو دور الهيئات والتنظيمات السياسية إن لم يكن احتضان وتأطير المواطنين وفي مقدمتهم الشباب؟ ولماذا ستصلح الإطارات السياسية والنقابية والاجتماعية إذا لم تنخرط في الحراكات الاجتماعية، لتساند المواطنين أولا، لأنهم الطرف الضعيف في أية مواجهة تشارك فيها السلطة، ثم للعب دور الوساطة والمساهمة في الحل؟
أغرب ما يجري مع هذه الحكومة هو غياب الوساطات في الأزمات الاجتماعية التي تسببها. كأننا أصبحنا فجأة دون مرجعيات ولا هيئات ولا إطارات ولا قامات فكرية وشخصيات حكيمة… ومردّ ذلك إلى أن هذه الحكومة لا تثق في أحد، وترى في كل ما يتحرّك خارج مجال تحكّمها المباشر كتهديد محتمل.
لماذا تنفي هذه الحكومة عن نفسها “ريحة” السياسة عندما يتعلق الأمر بالاختيارات والسياسات والبرامج التي تعتبرها ناجحة، وتنسب كل شيء للملك، معتبرة أن التسييس يعني منازعة الملك أو الاختلاف معه فتشهر تكنوقراطيتها الصرفة، بينما تتهم كل ما يتحرّك داخل المجتمع بالتسييس كما لو أن السياسة جريمة؟
على القائمين على تدبير شؤون المغاربة أن يتخلصوا من أسلوب الفزاعة السياسية الذي يعود إلى عهود بائدة، لأن الانتماء السياسي حق مشروع، وليس جريمة أولا، ثم لأن المحتجين يقدمون ملفا مطلبيا واضحا يجب أن يناقش وتقدّم عليه الأجوبة المناسبة في وقت معقول.
عندما يسارع مسؤول سياسي إلى اتهام متزعمي الاحتجاجات بالتسييس، كأي دكتاتور شمولي، فإنه يحاول نزع الشرعية عن المطالب، على اعتبار أن المحتج غير صادق، بل مجرد منفذ لأجندة غيره السياسية، ومن ثم محاولة نزع المصداقية في عين الرأي العام، ونقل الفعل الاحتجاجي من دائرة المطلب والرد على المطلب إلى ساحة الصراع السياسي الذي تملك فيه السلطة أدوات القمع والإخضاع، ومن ثم تبرير الإجراءات القمعية وإحداث انقسام داخل الكتلة المحتجة لإضعافها وتفريقها.
في مقابل قرار الحكومة إجراء الامتحانات الخاصة بالدورة الثانية ابتداء من اليوم، الأربعاء 26 يونيو 2024، أعلن الطلبة المحتجون عن مقاطعتهم لها ودعوتهم إلي برنامج احتجاجي جديد، يتضمن مبادرات مواطنة إيجابية، مثل التبرع بالدم وتنظيف الشواطئ والحدائق العمومية.
وبدل التلويح بالعصا التي تكسر ولا تبني، يجدر بالحكومة أن تتحمّل مسؤوليتها في وصول الملف إلى هذا المستوى من التأزيم، وتعود إلى الحوار الذي يفضي إلى اتفاقات مكتوبة بضمانات حقيقية بعدم الإقدام على إجراءات انتقامية كما جرت العادة، وألا تجد أي خرج في تقديم التنازلات لأنها هنا لخدمة المغاربة لا لإعادة تربيتهم.
يذكرنا أسلوب هذه الحكومة في تدبير الأزمات بقصة الراحل أحمد بوكماخ التي درستها أجيال من المغاربة في الابتدائي، والتي تأمر فيها الأم الولد بأكل البطاطس، فيرفض، لكنها ستحمله على أكلها بعد مراهنتها على مسار طويل.
فبعد رفضه أكل البطاطس، قالت الأم للعصا: اضربي الولد. فقالت العصا: انا لا أضرب الولد. فقالت الأم للنار: احرقي العصا، فقالت النار: أنا لا أحرق العصا. فقالت الأم للماء: أطفئ النار، فقال الماء: أنا لا أطفئ النار. فقالت الأم للبقرة: اشربي الماء، فقالت البقرة: أنا لا أشرب الماء. فقالت الام للسكين: اذبحي البقرة. فقالت السكين: أنا لا أذبح البقرة. فقالت الأم للحداد: اكسر السكين، فقال الحداد: أنا لا أكسر السكين. فقالت الأم للحبل: اشنق الحداد، فقال الحبل: أنا لا اشنق الحداد. فقالت الام للفأر: اقرض الحبل. فقال الفأر: أنا لا أقرض الحبل. فقالت الأم للقطة: كلي الفأر، فقالت القطة: أنا آكل الفأر.
هنا سينقلب كل شيء، وستراجع الفأر عن موقفه ويوافق على أن يقرض الحبل، وأعن هذا الأخير لأمر الأم بشنق الحداد الذي وافق على كسر السكين… إلى أن تراجعت العصا عن موقفها وقبلت ضرب الولد، ليذعن هذا الأخير لأمر أمه بأكل البطاطس.
فإلى متى سنواصل التعويل على حكومة تنتظر خضوع أحد عناصر سلسلة التعليمات الطويلة لتحمل من يواجهها على أكل البطاطس؟