طفل أو اثنين.. هل يقود التضخم والغلاء المغاربة إلى سلوك إنجابي جديد؟- حوار
أفرزت النتائج الأولية للإحصاء العام للسكان والسكنى لهذه السنة عن تطورات جديدة في النمو السكاني للمغرب، فرغم تضاعف عدد سكان المغرب منذ سنة 1960 بأكثر من ثلاث مرات، إلا النمو السكاني السنوي خلال العقد الأخير شهد أدنى مستوى له ببلوغع 0,85٪ خلال هذه الفترة، مقابل 1,25 بالمائة ما بين 2004 و2014، و2,6 بالمائة بين خلال الفترة الممتدة ما بين 1960 و1982.
في ذات السياق، كشفت ذات المعطيات عن تزايد في عدد الأسر مع انخفاض في متوسط عدد أفرادها، الذي انتقل من 4,6 إلى 3,9 فرد بين 2014 و2024 على المستوى الوطني، وهو ما يطرح أسئلة عديدة حول التوجهات الجديدة في البنية الديمغرافية للمجتمع المغربي والتحولات العميقة التي باتت تعرفها الروابط الاجتماعية.
صحيفة “صوت المغرب” نقلت هذه التساؤلات إلى سميرة مزبار، وهي باحثة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، اشتغلت في إطار عملها سابقا بالمندوبية السامية للتخطيط على برنامج استشراف المغرب 2030، والتي أقرت بأن بعض المعطيات التي جاء بها الإحصاء الجديد خالفت ما كان متوقعا، مفسرة تراجع النمو السكاني بالمغرب بعدد من الأسباب من بينها ارتفاع التوجهات نحو الهجرة بالإضافة إلى تدهور ظروف المعيشة الذي أثر على السلوك الإنجابي للمغاربة.
وفي الآتي نص الحوار:
بداية، كيف تقرئين الأرقام الواردة في النتائج الأولية للإحصاء العام للسكان والسكنى، وهل تسير في اتجاه ما كان متوقعا ؟
لا بد أن نؤكد أن هذه الأرقام أثارت بعض الدهشة، فقد جاءت هذه الأرقام على خلاف بعض التوقعات, حيث كانت التقديرات حتى الآن تشير إلى أن عدد السكان في عام 2024 سيكون 37.3 مليون نسمة، ولكننا الآن وصلنا إلى 36.8 مليون فقط. وهذا عدد أقل بكثير،
تفسير الأمر بتغير رؤية النساء تجاه إنجاب الأطفال، يبقى أمرا غير وارد بحيث لا توجد اعتبارات تجعل النساء يسرن في هذا الاتجاه ويتوقفن عن إنجاب الأطفال.
في عام 2014، كنا عند معدل 2.21 طفل لكل امرأة، وهو فعلياً عند مستوى الحد الأدنى للتجديد السكاني. ثم مباشرة بعد جائحة كورونا كانت التقديرات تشير إلى حدوث زيادة ملموسة في عدد الولادات، واعتُقد أن الأسر المغربية ربما أعادت ترتيب أولوياتها بسبب حجم الجائحة على الصعيد العالمي، فاختارت الاستثمار في الشيء الوحيد الذي يبقى دائماً، وهو إنجاب الأطفال. لذلك اتجهوا لإنجاب مزيد من الأطفال.
يُقدَّر الحد الأدنى للتجديد السكاني بحوالي 2.1 طفل. ويعني هذا المعدل أنه عندما تصل المجتمعات إلى مستوى مثل طفلين أو 1.9 طفل، فإن الجيل الحالي من الآباء لن يُعوَّض في الأجيال اللاحقة.
وكانت التوقعات بناءً على هذه الزيادة التصاعدية منذ عام 2019 تشير إلى أنه بحلول عام 2022 سنصل إلى معدل 2.3 طفل لكل امرأة. إلا أن هذا لم يتحقق، حيث نرى الآن أن الوضع مختلف تماماً.
هل يمكن اعتبار أن للهجرة دور في هذا التفاوت بين الرقم الذي أفرزته التوقعات الأولية للمندوبية والرقم الذي أفرزه إحصاء هذه السنة ؟
عند الحديث عن معدل النمو السكاني، فإننا نأخذ بعين الاعتبار معدل الخصوبة ومعدل الوفيات ثم الهجرة. بالنسبة لعامل الهجرة، يعد هو الأصعب في التقدير لأنه يرتبط بشكل وثيق بالجانب الاقتصادي، لكنها تبقى فرضية قوية لتفسير هذا التفاوت رغم صعوبة قياسها.
عندما لا تتوفر فرص العمل وتصبح الظروف صعبة، يميل الناس بطبيعة الحال للهجرة، سواءً بالانتقال إلى مدينة أخرى، أو الهجرة إلى بلد آخر. وفي المغرب، لدينا تقليد طويل من الهجرة، خاصةً من المناطق المهمشة في الأطراف،
نعرف مسار الهجرة التقليدي، بدءًا من فرنسا، ثم إلى دول جنوب أوروبا فعندما بدأت فرنسا بتقييد الهجرة إليها ظهرت وجهات أخرى مثل الولايات المتحدة منذ عام 2000، وكندا بقوة، والآن المغاربة ينتشرون في كل أنحاء العالم، بما في ذلك آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها.
وقد أصبحنا نلاحظ هذه الظاهرة مؤخرا كثيرا في صفوف الموظفين والأساتذة الجامعيين، ولا أعتقد أن هذا الظاهرة هامشية، بل أرى أنها تستحق أن تؤخذ على محمل الجد، لأن الناس لا يغادرون عندما يكونون في حالة راحة؛ بل يغادرون عندما يواجهون صعوبات.
وبالتالي أميل إلى تفسير التفاوت بين التقديرات ونتائج الاحصاء أساسا بعامل الهجرة وكذلك بتأخر الزواج لدى الشباب البالغين، بمعنى أنه ليس لأن النساء أنجبن أطفالًا أقل، بل لأن عددا من السكان كنا نتوقع أن يرتبطوا بعلاقات زوجية لم يتزوجوا، وآخرون لديهم أسر مستقرة، قد غادروا الى بلدان أخرى.
هل تعتقدين أن ارتفاع تكلفة المعيشة ومستويات التضخم العالية سيؤديان إلى مزيد من تقليص حجم الأسر المغربية في المستقبل؟
بالتأكيد، عندما لا يتمكن الأفراد من توفير ظروف معيشية ملائمة لأسرهم، فإنهم بطبيعة الحال يتجنبون إنجاب المزيد من الأطفال. حيث تتأثر الكثير من عاداتهم الاستهلاكية مما يقلل من طموحاتهم، ويجعلهم أكثر انتباها لطبيعة نفقاتهم.
من بين المشاكل التي يمكن نشير إليها في هذا الإطار هو مشكل تدهور جودة التعليم الحكومي، الذي رفع أعداد الأسر المتوسطة التي تلجأ للمدارس الخاصة، وهذه الخطوة لها تكلفة عالية وبالتالي لها تأثير مباشر على الأسرة. وهنا لا بد من التأكيد على أنه ما لم يتم وضع ضوابط للقطاع الخاص، فلن نتمكن من علاج مشكل التضخم، الذي أصبح مشكلا بنيويا في الاقتصاد المغربي بسبب مجموعة من العوامل والممارسات، مما يجعل الأسر هي التي تدفع الثمن.
يمكن أن نضيف هنا أن ارتفاع تكلفة المعيشة أثر أيضا على قدرة الطبقة المتوسطة على ممارسة الأنشطة الترفيهية مثل السفر واستهلاك بعض الخدمات، حيث أن اضطرار هذه الأسر لاستخدام جميع مداخيليها لتلبية الاحتياجات الأساسية فقط يجعلها عاجزة عن الاستثمار غي أمور أخرى، وهو ما يُعد عائقًا كبيرًا للاقتصاد المغربي.
بل ويمتد أثر ارتفاع تكلفة المعيشة إلى داخل الأسر بما يؤثر على قدرة الابناء في تقديم الرعاية لكبار السن. وهذا أمر يجب أخذه بعين الاعتبار.
حتى الآن، رغم الحديث عن الدولة الاجتماعية، فإن المسؤولية الرئيسية في رعاية كبار السن كانت تقع على عاتق الأبناء. فإما أن يكون لدى كبار السن تقاعد يوفر لهم الحد الأدنى من العيش، أو أن يعتمدوا على دعم أبنائهم. لكن الآن بات هذا السيناريو الأخير أقل شيوعًا، حيث لم يعد الأبناء قادرين على تحمل تلك الأعباء بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة.
ارتباطا بذات الموضوع، كيف تقرئين التوجهات الحكومية الأخيرة في هذا المجال، وهل هذا التدهور في الظروف المعيشية للأسر المغربية راجع بالأساس إلى الظروف الخارجية؟
في الحقيقة منذ تنصيب حكومة بنكيران، أخذت الحكومات المتعاقبة منحى رأسماليًا وليبراليًا قويًا، بتحويل كل شيء إلى سلع تجارية. وهو ما يتعارض مع الثقافة المغربية، التي كانت إلى ذلك الحين تقوم على التضامن الاجتماعي الذي لم يعد موجودًا، وذلك لعدة أسباب منها تغيّر الظروف المعيشية وصعوبة استمرار الأسر في الحفاظ على روابط التضامن مع الآخرين.
الأسر نفسها تعاني من صعوبة في البقاء. ومنذ جائحة كورونا، ومع كل التبريرات التي قُدمت لنا حول ارتفاع الأسعار، كالحرب في أوكرانيا والجائحة، أعتقد كخبيرة سوسيو-اقتصادية أن هناك ضغطًا قويًا من الشركات الخاصة التي تتصرف بحريّة، مستفيدة من عدم رغبة الدولة في التدخل، بحجة ضرورة ترك السوق ليتحكم. لكنني أرى أن ترك السوق يتحكم قد يدفع الناس إلى الهجرة إلى بلد آخر حيث يمكنهم العيش بكرامة.
مع ارتفاع الأسعار، أصبحت المنتجات الزراعية مثلا أغلى في السوق المحلية مما هي عليه في الخارج، بل وأصبح المغاربة يسخرون من أسعار الفواكه والخضر المغربية التي تُباع في باريس بسعر أقل مما هي عليه في المغرب.
هذا التباين الكبير في الأسعار وتزايد التفاوت الاجتماعي بات غير مقبول، وهذا من بين الأمور التي يمكن أن تفسر بعض البيانات الأخيرة.
كيف يمكن للسياسات العمومية أن تتكيف مع هذه الأرقام التي تعكس تحديات اجتماعية جديدة؟
يجب أن ترتكز التوجهات المستقبلية على مبادئ العدالة الاجتماعية، الكرامة، واحترام الآخر. هذه القيم كانت محور مطالب حركة 20 فبراير، وتشكل أساسًا لأي مجتمع يسعى لتحقيق التوازن والاستقرار. فلا يمكن لمجتمع يقبل بوجود فجوات ضخمة بين الأغنياء والفقراء أن يحقق تقدمًا مستدامًا، لأن مثل هذه الفجوات قد تسير بالفئات الغنية نحو مزيد من الغنى وتزيد من حدة فقر الفئات الفقيرة.
أيضا في الماضي، كانت الأسر الموسعة تشكل نوعًا من “ضمان المستقبل” للآباء، حيث يعتمد هؤلاء على أبنائهم لتقديم الرعاية عند تقدمهم في السن. لكن الآن، مع وجود الدولة، يجب أن تتحمل هذه الأخيرة مسؤولية توفير حياة كريمة للجميع داخل التراب الوطني، من خلال وضع سياسات متكاملة تُعنى بمختلف احتياجات الأجيال الشابة والمتغيرة.
بالإضافة إلى هذا لا بد أن تأخذ السياسات العمومية معطى آخر لا يقل أهمية، وهو طبيعة الجيل الحالي الذي يفضل تجاوز الأمور التي لا ترضيه بسرعة، ولا يميل للنقاشات الطويلة. هذه السمة الجديدة، التي تختلف عن الأجيال السابقة، التي كانت تميل للنقاشات والجدل في الجمعيات والنقابات، تخلق تحديات كبرى أمام سياسات الحوار المجتمعي وربط الأفراد بقيم وطنية مشتركة.
وهو ما يأتي بنا إلى نقطة أخرى تتعلق بضرورة خلق بيئة جذابة تحث أبناء الجيل الحالي على البقاء في وطنهم وتنمي لديهم حس الانتماء، خصوصا في ظل التطور الحالي على مستوى التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، التي قللت من عوائق الهجرة، مما جعلها متاحة أمام الجميع، وبالتالي، يجب أن تركز السياسات العامة على تقديم فرص حقيقية تعزز الانتماء، وتلبي تطلعات الأجيال الجديدة.