صورة الملك
في الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن لحظة التعديل الحكومي ستستأثر باهتمام الرأي العام المغربي بعد الترقب الطويل، تراجع هذا الحدث إلى خلفية المشهد في فضاءات النقاش، الواقعي منه والافتراضي، لتتصدّر المشهد صورة الملك.
تلك الصورة المؤثرة التي ظهرت في حقيقة الأمر يوم الجمعة 11 أكتوبر 2024، حين ترأس الملك افتتاح البرلمان، ثم عادت بكل الوضوح الممكن يوم 23 أكتوبر 2024، تاريخ استقبال وتعيين الحكومة الجديدة لعزيز أخنوش.
في الصور الثابتة ولقطات الفيديو، بدا الملك محمد السادس مرهقا وملامحه تشي بتعب غير معتاد، في مشهد جذب أنظار المغاربة وأثار فيهم مشاعر متباينة من القلق والتأمل.
تتجاوز هذه الصورة مجرد انعكاس لحالة صحية، بل تحمل معها أبعادا رمزية أعمق تتجذر في الوعي الجماعي للمغاربة. فملامح الملك ليست عابرة في وجدان الشعب، بل هي جزء من نسيج تاريخي طويل يجسد في شخصه كيان الأمة ومرجعيتها الروحية والسياسية.
ومنذ أن وظفت الحركة الوطنية صورة محمد الخامس، خلال الحقبة الاستعمارية، كرمز للمقاومة والكرامة الوطنية، ترسخت فكرة الملك كرمز موحد تتوجه إليه آمال الأمة، وتُستمد منه شرعية السيادة.
فقد استعملت الحركة الوطنية المغربية صورة الملك بشكل استراتيجي وقوي لتحفيز المغاربة وتوحيد صفوفهم في مواجهة الاستعمار الفرنسي والإسباني. ولعب الملك دورا محوريا في هذه العملية، حيث نجحت الحركة الوطنية في تحويل شخص الملك، وخاصة الملك محمد الخامس، إلى رمز موحّد ومقدس للكفاح ضد الاستعمار، مما أعطى للمقاومة المغربية قوة معنوية وشعبية هائلة.
وبدوره استثمر “المخزن” في صورة الملك عبر العقود اللاحقة، مما شكّل تمثلا عميقا في أذهان المغاربة للملكية ليس كحاكم فقط، بل كأساس لهوية وطنية يمتزج فيها التاريخي بالقدسي، لتصبح صورة الملك رمزا يمثّل وحدة الوطن ومرجعيته العليا.
هذا التمثّل المغربي للملكية ينعكس في رؤية المغاربة للملك كـ”أب للأمة”، بحيث يتجاوز دوره كقائد سياسي ليصبح حاميا للمعتقدات والقيم، ورمزا للاستمرارية وسط التغيرات.
من هنا تأتي أهمية صورة الملك وتأثيرها على المزاج العام للمغاربة، حيث تظل هذه الصورة مرآة تعكس ليس فقط حالته الشخصية، بل حالة الأمة بأسرها. المرض المحتمل أو التعب الذي بدا على الملك في الصورة الأخيرة قد يُفسر في اللاوعي الجماعي للشعب كتعب وطني أو أزمة مشتركة.
ويوضّح كتاب “السلطان الشريف.. الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب”، لصاحبه محمد نبيل ملين، أن التصور الحالي للمغاربة حول ملكهم لم يتشكل بين عشية وضحاها، بل هو نتيجة لتراكم تاريخي بدأ منذ عهد المرينيين وتطور مع السعديين ثم العلويين، حيث كانت السلطة الملكية دائما مرتبطة بفكرة “البركة” و”الشرف”.
وتعدّ الشرعية الدينية أهم الركائز التي تقوم عليها السلطة الملكية، حيث يُعتبر الملك في المغرب “أمير المؤمنين”، وهو ما يمنحه شرعية روحية إلى جانب سلطته السياسية.
هذه الثنائية بين الديني والسياسي هي ما يجعل صورة الملك تتجاوز كونه مجرد رئيس للدولة أو زعيم سياسي، ليتحول إلى رمز للقداسة الوطنية، وتجسيد لفكرة الامتداد الإلهي للسلطة.
في العصور السابقة، كان مرض أو تعب الملك سرا من أسرار الدولة، لكن في العصر الحديث، وخصوصا في ظل التطورات التي عرفتها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، باتت البلاغات الرسمية حول صحة الملك جزءا من إستراتيجية التواصل، حيث تُقدَّم للمغاربة كوسيلة لإشراكهم في متابعة صحة ملكهم الذي يراه الكثيرون تجسيدا للوحدة والاستقرار.
وتُعتبر هذه البلاغات جزءا من هذا البناء الرمزي، إذ عملت “دار المخزن” على خلق حالة من التوازن بين القداسة الشخصية للملك والشفافية التي تقتضيها الظروف الحديثة.
على مرّ التاريخ، كانت الدراسات العلمية التي تناولت صورة الملكية في المغرب تؤكد أن هذه الصورة ليست ثابتة، بل تتطور حسب السياق السياسي والاجتماعي.
ويبرز العالم والفيلسوف البريطاني إرنست غيلنر في أبحاثه حول المغرب، أن الملكية استطاعت أن تحتفظ بسلطتها الرمزية، من خلال قدرتها على التأقلم مع التحولات الاجتماعية والسياسية، مما جعلها محورا للهوية المغربية في مختلف الفترات.
وحسب غيلنر، فإن المغرب يبرز كحالة فريدة لأنه يجمع بين نظام سياسي تقليدي قديم يتمتع بشرعية دينية قوية، وبين تبني جوانب من الدولة الحديثة مثل المؤسسات الحكومية والبيروقراطية والقوانين الحديثة.
ويفسّر غيلنر كيف أن المجتمع المغربي كان لفترة طويلة يتألف من تركيبات اجتماعية معقدة تجمع بين القبائل والطرق الصوفية والمؤسسات الدينية، وأن الملكية استطاعت أن توازن بين هذه القوى المختلفة من خلال الحفاظ على التوازنات الاجتماعية والسياسية، مما ساهم في استقرار النظام.
وتتضح أهمية الرموز حين توضح دراسات غيلنر وغيره، كيف أن الملكية المغربية لم تفرض نفسها على المجتمع بالقوة فقط، أي قوة المخزن، بل استطاعت عبر القرون أن تستثمر في المؤسسات الدينية وتنسج علاقات مع الزوايا والقبائل لتعزيز شرعيتها.
صورة الملك إذن هي أكثر من مجرد قناة تواصلية للإخبار والتوثيق للحظة معينة، بل تتشكل عبر التاريخ ليس فقط من خلال الإنجازات السياسية أو المشاريع الإصلاحية، بل من خلال الرمزية الثقافية والدينية. والملك في المغرب لم يكن مجرد حاكم، بل يمثل مركزا روحانيا وسياسيا تتوجه نحوه أنظار الأمة في لحظات الأزمة والفرح على حد سواء.
لهذا أثارت صورة 23 أكتوبر 2024 كل هذا التفاعل والاهتمام، ولهذا تعتبر قناة البلاغات الرسمية حول صحة الملك ممارسة متقدمة وحيوية ينبغي تثمينها وترسيخها.
دعاؤنا بالشفاء العاجل ودوام الصحة والعافية، للملك محمد السادس.