story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

صوت الشارع فرصتنا لاسترجاع الأمل

ص ص

ما يجري اليوم في الشارع لا يمكن اختزاله في انفجار غضب عابر، أو ردة فعل على حادث طارئ. إنه، في جوهره، تعبير عن تراكمات طويلة من السياسات الفاشلة، ونتاج موضوعي لمنظومة اقتصادية واجتماعية لم تنتج سوى التفاوتات، والتهميش، والاحتقار الممنهج لأصوات الناس ومطالبهم. لذلك، فإن اختزال هذه الدينامية الشعبية في مجرد أزمة عابرة أو تهويلها كخطر أمني، لا يخدم إلا أولئك الذين يسعون لإعادة إنتاج واقع الاختناق السياسي والاجتماعي كما هو، دون تغيير.

في المقابل، ما يفرض نفسه بحدة اليوم هو ضرورة الاعتراف بأننا أمام لحظة سياسية واجتماعية فارقة، تملك من الرمزية والامتداد الشعبي ما يجعلها فرصة لإعادة طرح سؤال التوازن بين السلطة والمجتمع، وسؤال من يتحكم فعليا في القرار، ولمصلحة من تصاغ السياسات العمومية. هذه الاحتجاجات أعادت رسم ملامح المشهد العام، وأدخلت عناصر جديدة إلى المعادلة، على رأسها استعادة الشارع لمكانته كفضاء سياسي أول، لا كملحق هامشي للعبة المؤسسات المغلقة.

أهم ما تطرحه هذه اللحظة هو الحاجة الملحة إلى تحرير النقاش العمومي من الرداءة التي خنقته لسنوات. لقد أسكتت البنية السياسية المغلقة، والنخب المنعزلة عن الناس، كل نقاش حقيقي حول قضايا الكرامة، والعدالة، والحقوق الاقتصادية، والحريات. أما اليوم، فقد أعاد الشارع فتح هذا النقاش من موقع القوة الأخلاقية والسياسية، ليذكر بأن هناك أسئلة مؤجلة لا يمكن تجاوزها، وأن هناك واقعا يصر على فرض حضوره رغم محاولات التعتيم والتقزيم.

هذا النقاش القديم الجديد لا يمكن أن يتحقق في ظل التشرذم والانقسامات. لذلك، فإن أول ما تستدعيه هذه المرحلة هو توسيع قاعدة التضامن وبناء أشكال جديدة من الوحدة، قائمة على المشترك لا على الاصطفاف الأيديولوجي أو التنظيمي الضيق. فمعركة التغيير أوسع من أن تختزل في منطق الهيمنة بين الفرقاء، أو تشوه بممارسات التنافس الصغير. إنها لحظة تعاقد جماعي على الممكن المشترك، لا لحظة تصفية حسابات.

لكن لا يمكن الحديث عن هذا الأفق الجديد دون التوقف عند القمع والمتابعة والاعتقال الذي طال العشرات من المشاركين والمشاركات في الاحتجاجات. فحرية التعبير، وحرية التظاهر، والحق في الوجود السلمي في الفضاء العمومي، حقوق لا تقبل المساومة. ومصير هؤلاء المعتقلين هو عنوان مصداقية الدولة في علاقتها بالشارع. إن الإفراج عنهم ليس مطلبا إنسانيا فقط، بل شرط سياسي لأي حديث جدي عن الانفراج والإصلاح. من دونهم، تظل كل الوعود مجرد كلمات فارغة.

في هذا السياق، تظهر الحاجة الملحة للتصدي للسرديات التخوينية والشيطانية التي تحاول وصم الاحتجاجات بالخيانة أو العمالة أو الفوضوية. هذه اللغة لم تعد تقنع أحدا، بل تكشف عن عقلية سلطوية لا تزال تنظر إلى الشعب كتهديد، لا كقوة فاعلة ومُقترحة. الدفاع عن شرعية الاحتجاج، وعن رمزية الشارع، هو دفاع عن الحد الأدنى من الكرامة الديمقراطية، وعن الحق في مساءلة السياسات والمؤسسات دون أن يتحول ذلك إلى جريمة.

هذه المرحلة تكشف أيضا الحاجة إلى فرز واضح في المواقف. فقد كشفت هذه اللحظة من ينحاز فعليا لقضايا الناس، ومن يحاول الالتفاف على المطالب المشروعة باسم الواقعية أو الخوف من الفوضى. هذا الفرز ليس ترفا أخلاقا،بل ضرورة سياسية، لأن كل محاولة للتموقع الرمادي أو اللعب على التناقضات لا تساهم إلا في إضعاف الحراك وتشويه نُبله وصدقه.

وأخيرا، لا أفق حقيقي لأي تغيير دون مساءلة الفاعلين السياسيين والمؤسسات العمومية على ما أنتجته سنوات من السياسات الفاسدة والاختلالات الهيكلية. الحديث عن الإصلاح أو التهدئة لا يستقيم في ظل الإنكار والتبرير. المطلوب اليوم هو الاعتراف بالمشاكل، والجرأة في تقديم الحساب، وفتح حوار وطني شفاف ومسؤول، يقود إلى مخرجات قابلة للتنفيذ، ومُلزِمة في التقييم والمتابعة. لا يمكن الاستمرار في إعادة إنتاج الوصفات القديمة وانتظار نتائج مختلفة.

إن ما نعيشه ليس مجرد أزمة آنية، بل لحظة تاريخية يجب أن تُقرأ في عمقها، وأن تُفهم كفرصة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، على أسس جديدة قوامها الكرامة والحرية والمساواة. هذه اللحظة قد لا تتكرر، وتضييعها يعني الدخول في دورة أخرى من الإحباط، ستنتج انفجارات أكثر عنفا وأقل قابلية للاحتواء.

وإلى أن تتحقق هذه الشروط، يبقى المطلب الأساس، الجوهري والمبدئي، هو الإفراج عن جميع المعتقلين والمعتقلات، لأنه لا يمكن بناء الثقة في ظل استمرار الظلم، ولا يمكن الحديث عن أفق مفتوح في ظل إغلاق الزنازين.