صناعة النُّضج الكروي
حضور موهبة البارصا لامين يامال أمس في الندوة الصحفية التي تسبق مباراة نصف نهائي كأس دوري الأبطال الأوربي، ترك مفعول الإبهار لدى وسائل الإعلام الإسبانية، ولدى كل من استمتع إلى أجوبته والطريقة التي تعامل بها مع الفخاخ المعهودة للصحفيين.
بدا الوَلد هادئا يجيب على كل سؤال بكلمات دقيقة وبأسلوب فيه الكثير من الرصانة والمسؤولية والثقة في النفس.. وأعطى الإنطباع مرة أخرى أن النضج الذي وصل إليه، لا يتناسب مع سنوات عمره السبعة عشر، ولا مع المدة التي يجاور فيها الفريق الأول للنادي الكتلاني.
لامين يامال بالنظر لنجوميته وشخصيته ونضجه هو فعلا ظاهرة لا تتكرر إلا ناذرا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقيس عليه في حالات من سنه.. ولكن الثابت في عالم كرة القدم المتطورة اليوم هو وجود لاعبين بنفس نضج ومسؤولية لامين، لم يتجاوزوا العشرين من العمر، يوجدون في فئة الكبار داخل أنديتهم، ويلعبون في أعلى مستويات كرة القدم، بعدما صنعتهم أكاديمياتها وفق مناهج تكوين علمية حديثة، تصنع أطفالا لهم قوة ذهنية رهيبة، ولا يجدون أدنى مشكل مع متطلبات الإحتراف، ويعرفون التعامل مع ضغوطات النجومية، وكيفية التواصل مع المحيط الذي يمارسون فيه مهنتهم.
كان لي حظ زيارة “لاماسيا” مرتين، الأكاديمية التي صنعت لعالم كرة القدم الظاهرة لامين يامال، إضافة إلى العشرات من المواهب الناضجة المسؤولة، التي بصمت التاريخ بمستوياتها وإنجازاتها، واطلعت داخلها على المناهج التعليمية والتربوية التي تُحول الأطفال الموهوبين الذين تقتنصهم عيون المنقبين لتلحقهم بتلك المعلمة الكروية الشهيرة.
وجدت أن الأطفال المقيمين هناك بمختلف أعمارهم ومستوياتهم، يدرسون مواد عامة مثل أي مؤسسة تعليمية عادية، مثل اللغة الكتالونية واللغة الإسبانية واللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء والأحياء، والدراسات الاجتماعية أي التاريخ الجغرافيا، والتربية المدنية والأخلاقية، والمعلوماتيات.
وفوق كل هذه المواد، هناك مواد أخرى إضافية تُلقن لهم وهي التي تصنع كل هذا النضج وهذه المسؤولية في سن صغير، ويتعلق الأمر بحصص في علم النفس وعلم الإجتماع، وتداريب لتقوية الجانب الذهني الذي يساعد على التعامل مع ضغوط كرة القدم، بالإضافة إلى تلقينهم أسلوب حياة احترافي، وتقنيات التواصل مع وسائل الإعلام ومع الجمهور عبر منصات التواصل الإجتماعي.
ما تعتمده البارصا في مناهجها التعليمية والتكوينية لفائدة مواهبها في لاماسيا، ينطبق على معظم أكاديميات الأندية التي تمارس في المستوى العالي لكرة القدم في كل البلدان الأوربية المتوفرة على منظومات سليمة وسياسات واضحة لإنتاج نجوم الغذ.
التكوين في كرة القدم هو ميدان يتطور بسرعة جهنمية كل يوم، ويواكب التطور التكنولوجي باستمرار، ويستوعب كل الأبحاث العلمية المتعلقة بتطوير الجسد البشري، ويلاحق أي مستجد حديث يساعد الأندية ومؤطريها في الأكاديميات على إنضاج أطفال في عمر الزهور ليحملوهم مسؤولية قميص النادي في سن صغير، وليصنع منهم نجوما ناجحين يحضون باحترام كل من يشاهدهم أو يتعامل معهم.
هذا التطور السريع في منهجية تكوين الناشئين، بدأ يوسع الهوة بين أعلى مستويات كرة القدم، وبين مستوياتها السفلى المعتمدة فقط على موهبة الأطفال على أمل أن يصيروا لاعبين محترفين بدون استيعات أدنى أبجديات الإحتراف.. وتظهر هذه الهوة كثيرا في عجز لاعبي المنظومات الهاوية الذين لم يسكنوا يوميا في أكاديمية، أو يتعلموا شيئا من انضباطها والتقيد بمسؤولياتها، او يتعلموا المناهج التكتيكية في سن مبكر، يعجزون عن الإندماج حتى في أندية القسم الثاني للمستوى العالي لكرة القدم.
المشهد الكروي العالمي في العصر الحالي يقول بوضوح.. إما أن تتوفر على منظومة علمية واحترافية متطورة تصنع لك لاعبين ناضجين ونجوما تعرف التعامل مع متطلبات الإحتراف.. وإما فلتنزل إلى أقسام الهواة ل”تقصر” مع “المقصرين”.