صناعة التفاهة وهندسة الاغتيال المعنوي: حين تغدو الرداءة عقيدة سياسية لحماية الفساد والاستبداد
لم يعد الاستبداد في عالمنا المعاصر بحاجة ماسة إلى السجون المظلمة أو أدوات القمع الخشنة والتقليدية لإسكات الأصوات المعارضة، فقد طورت بعض الأنظمة السياسية، وتحديداً تلك المصنفة ضمن الأنظمة الهجينة التي تراوح مكانها بين ديمقراطية الواجهة وسلطوية الجوهر، آلياتٍ أكثر فتكاً وأقل كلفة للسيطرة على المجال العام. إننا نشهد اليوم تحولاً جوهرياً في تكتيكات الضبط السياسي، حيث انتقلت السلطة من الرقابة بالحجب ومنع المعلومات، إلى الرقابة بالإغراق وتلويث الفضاء العام، معتمدة في ذلك على ترسانة إعلامية وظيفتها الأساسية ليست الإخبار أو التنوير، بل صناعة التفاهة، وهندسة الفضائح، وممارسة “النبيش” الممنهج في الحياة الخاصة للمعارضين والمطالبين بالإصلاح، كاستراتيجية دفاعية هجومية تحمي تحالف السلطة والمال عبر تدمير مصداقية كل من يجرؤ على المساس ببنية الفساد المستشري.
إن تفكيك هذه الظاهرة يستدعي أولاً فهم الطبيعة السيكولوجية والسياسية للأنظمة الهجينة؛ فهذه الأنظمة تحرص على مداراة طبيعتها السلطوية، ولا تملك في ذات الوقت الإرادة السياسية لبناء ديمقراطية حقيقية، لذا فهي تعيش في المنطقة الرمادية التي تتطلب نوعاً خاصاً من الإعلام؛ إعلاماً لا يسبح بحمد الحاكمين ليل نهار كما في الشموليات الكلاسيكية، بل إعلاماً يبدو في ظاهره حراً وجريئاً، لكن جرأته لا تتجه نحو كشف ملفات الفساد الكبرى الحقيقية أو نقد السياسات العامة بالصدقية المطلوبة، وإنما تنحصر من جهة في انتهاك أعراض المعارضين، والخوض في ذممهم المالية والشخصية، ومن جهة أخرى في تسليط الضوء على الهوامش والغرائز والظواهر الشاذة لإلهاء وصرف انتباه الجمهور. هذه الوظيفة المزدوجة تخدم المتحكمين في هذه المقاربة من زاويتين: الأولى هي “الردع المعنوي” عبر إرسال رسالة مفادها أن تكلفة المعارضة -التي تنفذ لخطوط التماس الحقيقية مع بنيات الفساد والاستبداد- هي التشهير والفضيحة الاجتماعية التي قد تطال المعارض والأسرة والأقرباء، والزاوية الثانية هي الإلهاء الاستراتيجي الذي يحول أنظار الجماهير المفقرة والمغلوبة على أمرها عن أسباب بؤسها الاقتصادي نحو مسرحيات أخلاقية وفضائح مفتعلة لا تنتهي.
وفي عمق هذه الاستراتيجية، تبرز ظاهرة “النبيش” في الخصوصيات كأخطر أسلحة هذا الإعلام الوظيفي، حيث يتحول الصحفي -أو من ينتحل هذه الصفة- من باحث عن الحقيقة إلى مخبر سري يقتات على التقارير السرية وتسريبات الغرف السوداء. وهنا، لا يعود النقاش السياسي صراعاً بين برامج أو أفكار، ولا جدلاً حول الميزانيات أو الحقوق والحريات، بل ينحدر ليصبح محاكمة أخلاقية لشخص المعارض. وفي هذا السياق يتم استغلال البنية المحافظة للمجتمعات، حيث الشرف والسمعة رأسمال رمزي لا يقدر بثمن، لضرب المعارض بأي وسيلة في مقتل. إن التركيز على الحياة الخاصة أو الحميمية للمنتقدين، أو تلفيق تهم أخلاقية لهم، ليس مجرد سلوك صحفي منحرف، بل هو خيار ممنهج يتماشى مع إرادة جهات نافذة لمحاولة تجريد المعارضين من هالة النزاهة والمثالية التي قد تجذب الناس إليهم؛ فالهدف هو أن تتم شيطنة المعارض وتلطيخ سمعته في الوحل، كي تصبح أفكاره السياسية -مهما كانت وجيهة- فاقدة للتأثير، لأن ناقل الرسالة قد تم إسقاطه أخلاقياً في وعي الجمهور الذي لا يمتلك دائماً ملكات ووسائل التمحيص والتبين.
وهذا يقودنا إلى الدور المحوري الذي تلعبه صحافة التفاهة في عملية التجهيل الممنهج للمجتمع. إن إغراق المنصات الرقمية والمواقع الإخبارية والمشهد السمعي البصري بمحتوى تافه، يركز على الفضائح الجنسية، والجرائم الغرائبية، وصراعات المؤثرين المصطنعة، ليس نتاجاً عفوياً لطلب الجمهور كما يروج البعض، بل هو هندسة اجتماعية تهدف إلى تسطيح الوعي الجمعي. فحين يصبح المواطن محاصراً بسيل من الأخبار التافهة، تتآكل قدرته على التمييز بين الغث والسمين، وتضمر ملكة النقد لديه، ويتحول الاهتمام بالشأن العام وقضايا الديمقراطية والتنمية إلى مرتبة متأخرة خلف شغف التلصص ومتابعة الفضائح. هذا التخدير الإعلامي يضمن للاستبداد واللوبيات المالية المتحكمة استمرار مصالحها بعيداً عن أعين الرقابة الشعبية، فالمواطن الغارق في متابعة سيل من تفاصيل فضائح أخلاقية أو جرائم مثيرة أو أخبار تافهة لا يتوقف إغراق المشهد الإعلامي بها، لن يمتلك الوقت ولا الطاقة الذهنية لمساءلة الحكومة عن ارتفاع الأسعار أو صفقات الفساد العمومية.
ومن الملاحظ أيضاً في هذه الأنظمة اللجوء إلى تقنية “حرق المراحل” في التعامل مع الخصوم عبر الإعلام؛ فبمجرد بروز شخصية معارضة ذات كاريزما وقدرة على الحشد والتأثير، تنطلق الآلة الإعلامية للتشهير فوراً دون مقدمات. يتم التنقيب في السجلات والتاريخ القريب والبعيد، والبحث عن أخطاء الشباب، وتضخيم الهفوات البشرية العادية لتصويرها كجرائم لا تغتفر، وتسخير القضاء في بعض الحالات للاستنزاف في دوامة لا تنتهي. الأخطر من ذلك هو استغلال بعض مواقع النفوذ أحياناً لتسريب معطيات شخصية محمية بقوة القانون (مثل التسجيلات الهاتفية، السجلات البنكية، الملفات الطبية، أو المراسلات الخاصة..) إلى هذه المنابر الإعلامية، مما يؤكد التواطؤ البنيوي الذي يندرج ضمنه حراس التفاهة في ظل هذه المنظومات. إن هذا الانتهاك الصارخ للخصوصية لا يعد فقط جريمة قانونية، بل هو مؤشر على انهيار القيم الأخلاقية لهذه الدول، واختراقها من كيانات موازية تجثم على مختلف المفاصل المؤسسية وتستخدم كل الوسائل القذرة للحفاظ على هيمنتها.
إن العلاقة العضوية بين لوبيات المال والسلطة وبين هذا النوع من الإعلام لا يمكن إغفالها عند التحليل؛ فتمويل هذه المنابر، سواء بشكل مباشر عبر الإعلانات والدعم العمومي المعلن وغير المعلن، أو بشكل غير مباشر عبر قنوات أخرى، أو عبر التغاضي عن خروقاتها القانونية والمهنية، يشير بوضوح إلى أن هذه الصحافة الصفراء هي الذراع الضارب لبنيات مناهضة الإصلاح ولشبكات المصالح الريعية. إن المعارضين والنشطاء الحقوقيين والصحفيين الاستقصائيين يشكلون تهديداً وجودياً لهذه الشبكات لأنهم يسلطون الضوء على مناطق الظل، ولأن محاصرتهم أو تصفيتهم بالوسائل التقليدية، على نمط الأنظمة الشمولية، باتت مكلفة دولياً وحقوقياً، فإن “التصفية المعنوية” هي البديل الأمثل. وضمن هذا الهدف يتم تجنيد كتائب إلكترونية وأقلام مأجورة وظيفتها الوحيدة هي التربص بأي صوت مزعج، والنبش في ماضيه، وفي بعض الحالات فبركة الصور والمحادثات، لخلق حالة من الرعب النفسي تجعل أي مواطن آخر يفكر ألف مرة قبل أن يعبر عن موقف او يكتب رأيا او تدوينة تنتقد مسؤولاً نافذاً أو تفضح اختلالاً.
علاوة على ما سبق، تعمل هذه المنظومة الإعلامية على خلق حالة من العدمية السياسية لدى الجمهور. فعندما يرى المواطن البسيط أن الجميع متهم، وأن كل الرموز السياسية والحقوقية يتم تمريغها في الوحل، يترسخ لديه اعتقاد خاطئ بأن الكل فاسد، وأن لا أحد يستحق الثقة. هذه النتيجة هي بالضبط ما تصبو إليه الأنظمة السلطوية: تيئيس الناس من جدوى التغيير، ودفعهم للاستقالة من الشأن العام، والقبول بالأمر الواقع باعتباره قدراً لا مفر منه. إن مساواة الضحية بالجلاد، والناشط النزيه بالمسؤول الفاسد عبر تقنية خلط الأوراق ونشر الفضائح للجميع، تهدف إلى تمييع المشهد السياسي برمته، بحيث يضيع صوت الحق وسط ضجيج التشهير، وينسحب العقلاء من الساحة تاركين المجال للرداءة والانتهازية.
إن خطورة هذا النهج لا تقتصر على اللحظة الراهنة، بل تمتد لتضرب مستقبل المجتمعات في الصميم. فتشجيع ثقافة التلصص والتشهير داخل هذه الأنظمة الهجينة يضرب منظومة القيم المجتمعية، ويحول المجتمع إلى كيان مفكك تسوده الريبة والشك. كما أن سيادة التفاهة كنموذج للنجاح والشهرة تخلق جيلاً مشوه القدوة، يرى في المؤثرين التافهين نماذج عليا، بينما يتوارى المثقفون والعلماء والمصلحون خلف جدران الصمت خوفاً من أن تطالهم ألسنة السوء. إن هذا التجريف القيمي هو الضمانة الأكبر لاستمرار الاستبداد، لأن الشعب الجاهل والمفكك أخلاقياً هو الأسهل انقياداً، والأقل قدرة على المطالبة بالحقوق والحريات.
وفي الختام، يجب التأكيد على أن مواجهة إعلام التفاهة والفضائح في الأنظمة الهجينة ليست معركة أخلاقية فحسب، بل هي معركة سياسية ووجودية بامتياز. إن الوعي بطبيعة هذه الآليات، وفضح ارتباطاتها بمراكز النفوذ المالي والسياسي، هو الخطوة الأولى نحو تحصين المجتمع من هذا المناخ الموبوء. فلا يمكن بناء دولة الحق والقانون في ظل إعلام ينهش الأعراض ويحمي الفساد، ولا يمكن تحقيق تنمية حقيقية والمجتمعُ يغرق في مستنقع التفاهة. إن الصمت عن هذه الممارسات، أو التعامل معها بمنطق “الفرجة” والحياد، هو مشاركة غير مباشرة في الجريمة. فالمستهدف في النهاية ليس شخص المعارض الذي يتم التشهير به اليوم، بل المستهدف هو وعي المواطن، وحقه في المعرفة، ومستقبله الذي تتم سرقته تحت غطاء كثيف من دخان التشهير والفضائح المفتعلة. إنها معركة بين الحقيقة التي تحرر الشعوب، وبين الفضيحة التي تكبلها، والخيار هنا لا يقبل الحياد.