story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

صكوك الحليمي

ص ص

حين تابعت الندوة الصحافية التي عقدها أحمد الحليمي، المندوب السامي للتخطيط، عشية انطلاق الإحصاء الوطني للسكان والسكنى، كنت أنتظر أجوبة حقيقية عن الأسئلة الحارقة التي تحيط بهذه العملية الإحصائية “الروتينية”.
لكن حديث السيد الحليمي لم يكن مجرد دعوة للمشاركة؛ بل بدا وكأنه خطاب من العصور الغابرة، حيث تنصّب السلطات نفسها مانحة لصكوك الوطنية والانتماء، متجاهلة أن الشعب هو الأصل في السيادة، وأن الموظفين، مهما كانت مناصبهم، لا يمتلكون الحق في توزيع تلك الصكوك.
تحدّث الرجل بحماس مبالغ فيه، ليصوّر المشاركة في الإحصاء كأنها الشرط الوحيد للانتماء إلى هذا الوطن. بل ذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن هذا الإحصاء سيكون خطا فاصلا بين “الوطني” و”غير الوطني”، متناسيا أن وظيفته هي تنفيذ مهام قانونية محددة، لا أن يتجاوزها إلى توزيع الصكوك.
متى يتعلّم الموظفون العموميون في هذه البلاد أنهم مطالبون بأداء مهامهم والخضوع للقانون وتقديم الحساب، لا توزيع صكوك الوطنية.
لقد كنا نعتقد إلى غاية انعقاد هذه الندوة، أن انتماءنا إلى هذا الوطن أصيل، وراسخ، وسابق عن أي قرار أو شخص أو مؤسسة. فإذا بنا نكتشف اليوم أننا سنصبح مغاربة إذا، وفقط إذا، نحن تجاوبنا مع الباحثين التابعين لمندوبية التخطيط ووزارة الداخلية.
لقد وقع الحليمي، رغم أنه رجل دولة ذو خبرة طويلة، في زلة غير مقبولة عندما هدد بعقوبة “التشهير” لمن يرفض التعاون، وهي عقوبة لا ينص عليها القانون، ولا يوجد لها أي سند في ممارسة مسؤولياته.
وهو يستهدف بشكل مباشر المواطنين المغاربة الميسورين ممن يسكنون الفيلات ويتوفّرون على كلاب للحراسة في أبوابها، موظفا قاموسا لا يخلو من تمييز ووصم وتحريض، لاستمالة الفئات الشعبية الواسعة؛ زاد المندوب السامي من عندياته عقوبة جديدة وهي “فضح” من سيرفضون التجاوب مع الباحثين والجواب عن أسئلتهم المتعلقة بالإحصاء.
ماذا نسمّي هذه العقوبة إذا لم تكن هي التشهير بعينه؟
دفعني هذا المشهد إلى البحث من جديد عن القانون المنظم للإحصاء، وهو صفحة يتيمة من أربعة فصول تحمل توقيع الوزير الأول أحمد العراقي بتاريخ 16 يونيو 1971.
ثم أعدت قراءة الفصل الثالث من هذا القانون، الذي ينص على عقوبة من يرفضون الامتثال لإجراءات الإحصاء، فوجدت أنه يحيل على الفصل 609 من القانون الجنائي، وتحديدا الفقرة 11 منه.
انتقلت رأسا نحو مجموعة القانون الجنائي، في النسخة الكاملة المنشورة في موقع المحكمة الدستورية، وبحثت عن هذا الفصل، لأجد أنه ينص على عقوبة تتراوح بين 10 و120 درهم في حق من يرتكبون لائحة من المخالفات.
بعد النزول إلى الفقرة 11 التي يشير إليها قانون الإحصاء والتي تتضمن المخالفة المعنية بالعقوبة، وجدت أنها تقول حرفيا: “من خالف مرسوما أو قرارا صدر عن السلطة الإدارية بصورة قانونية، إذا كان هذا المرسوم أو القرار لم ينص على عقوبات خاصة لمن يخالف أحكامه”.
هذا كل شيء.
وبما أن النصوص المؤطرة للإحصاء لم تنص على أية عقوبة أخرى، بل تشير إلى هذا الفصل من القانون الجنائي، فإن العقوبة الوحيدة الممكنة في حق من لا يرغبون في التجاوب مع باحثي مندوبية الحليمي، هو غرامة لا تتجاوز 120 درهما.
فمن أين أتى السيد الحليمي بعقوبة التشهير التي هدّد بها؟
المشكلة الحقيقية لدى السيد الحليمي تكمن في بقائه لفترة طويلة في موقع المسؤولية والسلطة. من يعمّر طويلاً في هذه المواقع قد يعجز عن ملاحظة التغيرات الجارية من حوله.
لا يدرك السيد الحليمي، بعقله الإحصائي، أن مغاربة 2024 ليسوا هم مغاربة 2014 أو 2004؛ فالمواطن المغربي اليوم يبحث عن التنمية والتقدم، وعن مؤسسات تدار بشفافية ومهنية. لكنه أيضًا مواطن يرفض التهديد والتشهير.
خطاب الوطنية الفائضة الذي استخدمه الحليمي قد يأتي بنتيجة عكسية. فهذا المغربي الذي يراد إحصاؤه اليوم تحت التهديد، يريد أيضا دولة القانون والحقوق والحريات والشفافية في التدبير.
مغاربة اليوم لا يقبلون بأن تُمارس عليهم أساليب تهديد مستوحاة من عهد قيّاد السيبة، حيث يتم اقتيادهم إلى الإحصاء تحت تهديدات الموظفين العموميين. بل يرغبون في المشاركة بقناعة وإرادة حرة، وفي إطار قانوني واضح، دون الحاجة إلى سماع تهديدات بممارسات “التشهير” التي تعود بنا إلى عصور بائدة.
لا يمكن لمغربي 2024 أن يقبل بالخضوع لعملية ضخمة من هذا النوع دون أن يسأل عن مصدر تمويلها، وكيفية التصرف في ميزانيتها، وسبب الإصرار على تعطيل وظيفة موظفين آخرين يصرف لهم هذا المواطن من ضرائبه أجورا مقابل القيام بوظائفهم تلك، بدل الاستعانة بعاطلين أو طلبة.
كل المغاربة شركاء في هذا الوطن ولا يمكن لأحد أن يحاول “اختطافه” تحت أي مبرر. أو أن يقتادهم أي كان إلى الإحصاء بخطاب قيّاد عهد السيبة.
وإذا كان الحليمي يفاخر بأن جميع الحكومات المنتخبة طالبت بإعفائه من منصبه باستثناء حكومة عباس الفاسي، فإن هذا يبدو إشارة واضحة على أن عمق الفجوة بين إرادة المواطنين وما تعبر عنه السلطات من ممارسات.
هذه هي أولى المؤشرات التي يفرزها إحصاء 2024 قبل أن ينطلق شقه الميداني: مسؤول يتفاخر بكونه يعاكس اختيارات المغاربة التي يعبرون عنها في تمرينهم الديمقراطي البسيط.