صرخة عض “الأصابع النووية” وشيكة

حين اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في الرابع والعشرين من شهر فبراير 2022، قامت اللجنة الأولمبية الدولية بإقصاء روسيا من المشاركة في جميع المنافسات الرياضية ما عدا واحدة، يتعلق الأمر برياضة عض الأصابع..
المواجهات في هذه الرياضة ليس لها وقت أو زمن أو مدة محددة، لأن الانتصار في رياضة الأصابع يكون فقط حين يصرخ الخصم أولا. وفي الوقت الذي صارت هذه الرياضة أكثر عنفا وتدميراً صار لها اسم أكثر أناقة: “الصبر الاستراتيجي”، بعدما كانت لمدة عقود طويلة تسمى “حرب الاستنزاف”، ينهزم فيها من يتعب أولا فيرفع الراية البيضاء. ولروسيا المقصاة من المشاركة في جميع المنافسات الرياضية، باع طويل في رياضة عض الأصابع، ولها إنجازات لا خلاف عليها، أبرزها تلك التي عرفت ب “حصار ليننغراد”، أو سانت بطرسبرغ حاليا، من طرف الجيش النازي بمساعدة فنلندا وإسبانيا…
عض الأصابع هنا استمرّ من التاسع من سبتمبر 1941 إلى 18 يناير 1943 حين كسر جزئيا، ولكن لم تنته حفلة العض ويرفع الحصار تماما سوى في 27 يناير 1944 أي بعد 872 يوما.
وتفاصيل تلك الموقعة طويلة ومتعددة ومؤسفة، لكنها ليست موضوعنا اليوم ولم نوردها إلا على سبيل المثل والمقاربة، لأن النازية التي قادت إلى حصار ليننغراد وقتل ملايين الناس ليست بعيدة عن الإيديولوجيا الغربية المهيمنة بشكل عام في كل زمان ومكان، والقائمة على مبدأ التفوق العرقي، والتي ما تزال مستمرة حتى الآن وستبقى .
نقفل هذا القوس ونعود لموضوع “الصبر الاستراتيجي”. هذا الصبر بات على وشك النفاذ، وبات سماع دوي صرخة المنهزمين قاب قوسين أو أدنى. منذ 24 فبراير 2022، يعض كل من روسيا والغرب أصابع بعضهما البعض، وينتظر كل منهما متى يصرخ الآخر.
وقد كان الغرب يمني النفس بنصر سريع على بوتين، لكن ذلك تأخر كثيرا حتى فقد الغرب صبره .ولأن صراخ موسكو تأخر كثيرا حتى بات الغرب على وشك الصراخ، قامت أوكرانيا نيابة عن الغرب بواحد من أكبر وأخطر الأخطاء في هذه المواجهة، حين قام بمهاجمة الترسانة الاستراتيجية الروسية.
ونعني بالترسانة الاستراتيجية الروسية تلك الطائرات أو القاذفات التي تستطيع حمل مكونات وقنابل نووية، مثل طائرة “تيبوليڤ 95” أو “تيبوليف 160”. ويقال إن الدول الغربية متورطة في هذا الهجوم، بل يقال أيضا إن جهاز “إم.أي 6” البريطاني شارك فعليا في هذا الهجوم. وخطورة هذا الفعل تأتي من كونه يمس بالسلام العالمي القائم على معادلة الردع النووي.
كلنا نعلم أن السلام العالمي الحالي لا يرتبط لا بالأمم المتحدة ولا بالاتفاقيات الدولية الأخرى، وحدها معادلة توازن الرعب النووي تجعل العالم مستقرأ، لحد الآن على الأقل. والأخطر في كل هذا هو أن الهجوم الأوكراني على الترسانة الاستراتيجية الروسية يوم الثاني من يونيو 2025، يعتبر خرقا لاتفاقيات نيوستارت الموقعة في الثامن من أبريل لسنة 2010 بين أوباما وميدفيديف، والتي تعني، من بين ما تعنيه، أن الدول النووية يجب أن تجعل ترسانتها وقاذفاتها الاستراتيجية ظاهرة للعيان حتى تتمكن الدول النووية الأخرى من التأكد من عدم تطويرها أو تحريكها، وهو أمر ظلت روسيا ملتزمة به رغم تعليقها لاتفاقية نيوستارت هذه في فبراير من سنة 2023، وهذا ما منح أوكرانيا سهولة في الوصول لهذه القاذفات وقصف بعضها، بمساعدة من الأقمار الاصطناعية الغربية، الأمريكية والبريطانية.
نحن إذن أمام عملية خرق لاتفاقية نووية. خرق لا بد أن يترتب عنه رد من نفس النوع وبحجم أكبر، مع تحميل المسؤولية للغرب.
في اتصال هاتفي بين بين ترامب وبوتين، قبل يومين، قال ترامب إن بوتين أخبره بأن الرد الروسي على هذا الهجوم الأوكراني حتمي، وأن روسيا قررت أن تعض أصابع أوكرانيا عضة استراتيجية. لماذا قال بوتين ذلك لترامب؟ في لغة الدبلوماسية هذا يعني ثلاثة أشياء: أولها أن بوتين يحمل واشنطن وترامب شخصيا مسؤولية ما وقع، وهذا أمر حاول ترامب الرد عليه بأن أعلن أنه لم يكن على علم مسبق بهذا الهجوم (طبعا بوتين لم يصدق ذلك)، وثانيهما أن واشنطن أخذت علما بل وافقت على العضة الروسية، وثالثها أن الاثنين اتفقا على أن تقتصر العضة هذه المرة على كييف وأن لا تتعداها نحو واشنطن أو لندن…
لكن موسكو تعرف أن وقوع الهجوم الأوكراني هو مقدمة لهجوم غربي مشترك على الترسانة النووية الروسية، ولذلك قامت بتفعيل ترسانتها، مثلما فعلت كل من واشنطن وباريس ولندن بداية هذا الأسبوع.
المشكلة أن هذا الهجوم يأتي بعدما قام بوتين، كما يعلم الجميع، بتحديث العقيدة النووية الروسية، من خلال اعتبار أن أي مساس بالترسانة النووية الروسية يعتبر تهديداً وجوديا يستدعي ردا حتميا من نفس النوع يشمل من خطط ومن نفذ الهجوم دون تمييز.
نحن هنا إذا نقترب من رد نووي روسي، ربما، وأقول ربما، لن ينحصر في أوكرانيا، بل قد يشمل بشكل ما إحدى دول أوروبا النووية، فرنسا وخصوصا بريطانيا. بل أكاد أدعي أن روسيا، التي تعتبر أوكرانيا جزءً منها وتعتبر الأوكرانيين بمرتبة المواطنين الروس، لا تريد وقد لا تستعمل أسلحتها النووية في أوكرانيا، وإنما مباشرة في الدول الغربية المحرضة والمؤطرة لهذا الهجوم، وقد يتخذ هذا الهجوم تدميرا لأقمار التجسس البريطانية أو الفرنسية أو حتى الأمريكية، وتدميرها لتوجيه إشارة يفهمها الجميع .
يوجد بوتين اليوم في موقف لا يحسد عليه، وسياسة “الصبر الاستراتيجي” التي انتهجها حتى الآن أصبحت شبه لاغية، لأن بوتين يعتبر بالفعل أكثر القادة الروس حكمة واتزانا، لكن المحيطين به، سواء تعلق الأمر بتولستوي أو ميدفيديف أو شويغو، ليسوا بنفس الصبر ورباطة الجأش.
يمكن القول أننا بتنا بالفعل على أبواب جحيم حقيقي سيحدد توقيته وحجمه الرد الروسي على التهور الغربي. لذلك قلنا إن أحد الطرفين صار قاب قوسين أو أدنى من الصراخ في مباراة “عض الأصابع” هذه التي تستمر منذ فبراير 2022.
بقي أن نقول شيئين، أولهما أن ما يقع هو انتصار للمحافظين الجدد والدولة العميقة في أمريكا، ومؤشر على بداية هزيمة ترامب. وهذا موضوع تناولناه في مقال سابق وسنفصل فيه في المقال اللاحق. وثانيهما أن عودة المحافظين الجدد تعني بالنسبة لبوتين أن الانتصار في الحرب الأوكرانية لن يكون نهاية المواجهة مع الغرب بل سيكون على روسيا، بعد أوكرانيا أن تستعد من الآن لمواجهات أخرى، ربما تكون هذه المرة مع بولونيا، مما يعني ضمنيا تفعيل البند الخامس من الميثاق التأسيسي لحلف الناتو.