صحافةٌ “أسيرة حرب”

نواصل الحديث عن الصحافة وشواغلها.
ابتداءً، لستُ ممّن يتحمّسون لأن يكون الصحافيون موضوعاً، إلا ما ارتبط، في الدول المتعثّرة ديمقراطياً، بانشغالات الحريات والأصول المهنية. الصواب أن يكون ما تقدمه من أخبار وتحليلات وروبورتاجات وحوارات وتحقيقات موضوعاً. لكن عندما يُوضعُ حصى في حذاء الإعلام للعرقلة والإيذاء والتضييق يصعبُ التجاوز وإغماض العين.
تحدثتُ الأسبوع الماضي عن مسؤولية السلطة في الإضرار بالصحافة، وما ترتّب عن ذلك من نتيجة لا تسرّ صديقا أو عدوّا. واليوم، أقول إنه بعدما “شبّ عمرو” بعضُ المفسدين في الإعلام عن الطوق، لم يبقَ للدولة، على ما يظهر، من خيارٍ غير تسليمهم مفاتيح “الحلّ والعقد”.
تحوّل البعض في هذه المهنة إلى “شبّيحة” لا يتردّدون في إصدار البيانات المكتوبة بحِبْر التهديد، ولا تعرف من أين تأتيهم كل هذه الجرأة على لغة تتجاوز بكثير أدوار الجمعيات والهيئات المهنية. والأكثر من ذلك، صار قلبُ الحقائق وليّ عنق الوقائع لعبةَ هؤلاء، فضلا عن رصد تَحَوُّرٍ شديد الخطورة في وظائفهم، فصار المُشَهِّر يزعم محاربة التشهير، والمائع المنفلتُ من الأخلاقيات يُنَظِّر في المهنية، والمنقلبُ على المؤسسات والقانون يدّعي التنظيم والقطع مع الفوضى.
لا شيء أكثر سخريةً من هذا.
يعبّر مواطنون عن امتعاضهم من تراشق صحافيين، ويكتب زملاءُ عن وجوب رَتْق الفتْق الذي يتّسع بين فرقاء المهنة ويستهجنون كل هذا “التناحر” وسط قبيلة الصحافيين أكثر من كل المهنِ الأخرى، عبر ملاسنات سارت تغطّي على وظيفة الإخبار، حتى يبدو أن الجميع تحوّل وانزاح عن مهمته. وفي هذا حكمٌ مبالغٌ فيه، أو “سوء فهم كبير”.
أولا، لأنّنا في بلدٍ يعيش انغلاقا، ويندر أن يجد الصحافي ما يستحق أن يكتب عنه، ولا من يتحدث معهم من “أصحاب المعلومة”، في زمن صار الناطق باسم الحكومة صامتاً، وبعض الوزراء يتهجّى المكتوب، وإذا ارتجل بعضهم كلاماً قلّ أن لا يقترف فضيحة. وحتى إذا وجد الصحافي ما يستحق أن يعلم به الجمهور، فلا تقبل كل المؤسسات النشر، ضمن رقابة ذاتية متفشية، وضبط معلوم.
ثانيا، لا أرى حرباً “أصيلةً” بين صحافيين. في اعتقادي أن الحاصل صراعٌ مُرَحَّلٌ إلى داخل الصحافة، ومعارك منقولة إلى جوْفِها. ما يبدو تطاحناً بين بعض منتسبي الصحافة هو مظهر تنافس إراداتٍ وامتدادٌ لصراعات سياسية وأمنية واقتصادية و..، في أغلبه تنافسٌ غير متكافئ، يسند فيه بعضهم ظهورهم إلى حائط السلطة، ادعاءً أو حقيقةً.
الذي يجري هو احتكاك شديدُ التوتر من أطرافٍ عديدة لأجل إعادة هندسة “الوعي الاجتماعي” عن طريق التحكم في الصحافة، بآليات متنوعة، تبدأ باستغلال القانون للقمع، ولا تنهي عند هدم وإعادة بناء المؤسسات ضمن حروب شرعية تمثيل الصحافيين.
وإذا كانت الصحافة تمنح الفاعلين في السلطة والمجتمع “حقّ تفسير الواقع”، فإن ذلك يفسّر تحولها إلى مجال تنازعٍ للمصالح، عالي الانفعال والتفجير. وإذا ما ظهر حجم الاستثمار المادي و”الرمزي” الذي يُنفقه بعض المنتمين للسلطة أو الفاعلين فيها، للسيطرة على الصحافة، بطُلَ كثيرٌ من العجبِ، لأنّ المتصارعين في معركة “إعادة تشكيل الحقيقة” يهدفون إلى قطع الطريق أمام كل محاولة للإضرار بمصالحهم، في مقابل رغبتهم في هيمنة رؤية معينة للأحداث والوقائع.
وتعمل بعض الصحافة المُهيمَنِ عليها بأساليب الإخضاع، من التمويل والإشهار وغيرهما، على تكريس مصالح النخب المهَيمِنة وتحويلها إلى “حقائق بديهية” في نظر الجمهور، أو تجييرها في صورة الواقع الذي لا يرتفع ولا بديل عنه ضمن مسعى التيئيس. لعبة شديدة المكر، حيث يتحوّل الإعلام المهيْمَنُ عليه إلى أداة هيمنة.
يعمد بعض الإعلام إلى تبرير الفساد مثلا بالضرورات الاقتصادية، وتعييب المجتمع بالتبئير على العاهات فيه للقول بتخلّفه وعدم استحقاقه، ومهاجمة الفعل المجتمعي، خاصة التحركات الاحتجاجية والحِراكات المعارضة، من خلال تسفيهها وتصويرها تهديدا للاستقرار والأمن، ورمي النقد الموضوعي والمعارضة الوطنية بالخيانة.
والسلطة في كل الدول التي تعاني “فقراً ديمقراطيا” لا تترك أية فرصةٍ لنشوء ممارسة صحافية قوية، لأنّها فعلياً ذات مصلحةٍ في إضعاف أدوات المجتمع في ميدان تشكّل الموقف و”الحقيقة”، للحيلولة دون أن يتحوّل إلى نشاط في ساحة الشارع على شكل ديناميات متفاعلة ومفتوحة يمكن أن ينتج عنها اختلال في ترتيبات النظام السياسي أو الاقتصادي أو الأمني التي يُراد لها أن تبقى ثابتة، مُغلّفةً بمسميات “الاستقرار” و “الإجماع” و”المصلحة الوطنية” مثلا.
لكن ما يفوت هؤلاء هو أن اختطاف الصحافة من يد المجتمع لا يفتح الباب إلا أمام ظهور الإشاعات وتغذية نظريات المؤامرة، التي تعوّض الصحافة المهنية في زمن الاستهلاك الرهيب للمحتوى والتدفق هائل للمعلومة، وسهولة الوصول للجمهور. كما أن مصادرة الصحافة وانتزاعها من المجتمع وجعلها تجلس “ربيبةً في حِجْر” السلطة يساهم في تفشي الشعبويات وينعش العنف الرمزي، لأن إدارة المحاورة المجتمعية تكون قد فقدت أداةً تحوّلت إلى بوقٍ ووسيلة للتزييف والغلبة، وآلية من آليات الإخضاع وتشكيل الوعي بأساليب قسرية تتجاهل التطوّر الطبيعي للمجتمعات واحتياجها للديمقراطية كحاجتها للتنمية.
وما يغيب عن بالِ هواة إضعاف الصحافة أنهم يساهمون، من خلال غلق الفضاء العمومي، في تحويل ما يُفترض أن يكون حوارا حضارياً سليماُ، إلى حالة شدّ وتوتر سرعان ما تنفلتُ إلى الشارع، بناء على فكرة شديدة البداهة، أن “السلطة يمكن أن تُخضعَ الناس بعض الوقت، لكنها لا تستطيع أن تُخضِعهم طولَ الوقت”.
الأصل في الصحافة أنها لا تتنافس فيما بينها إلا في أداء وظيفتها في الإخبار وفي الجودة والسبق، ولأجل المقروئية. وما نشهده اليوم يكاد يكون بعيدا عن هذا المطلب، لأن الصحافة لا تقوم بوظيفتها “خالصةً لوجه المهنية” من منطلق أنّها سلطة، بل إنها تُستهلك وتُستنزف في معارك متعددة الأبعاد لسُلطٍ أخرى داخل جبهتها.
بهذا، يتحوّل صحافيون إلى أدواتٍ، لاستهداف الصحافة نفسها والمعارضين وكل فعلٍ مجتمعي لا يتماهى مع أصحاب المصلحة في “تشغيل” هذا النوع من الإعلام، فيكون الصدام، مراتٍ، حتمياً داخل الصحافة نفسها، لتعارض المهنية مع غيرها، ولتوظيف بعض الصحافة ضد الصحافة، ضمن مسعى السيطرة على ما يجب أن يعرفه المجتمع.
وهذا الكلام لا يعني أن كل الصحافة في العالم، وحتى في الدول الديمقراطية، لا تخضع للأجندات وليست ذات “ميولات”. مثل هذا القول سيكون غير واقعي وتزييفاً. وعموماً، في الدول التي قطعت مع الاستبدادات، وتحمي الحقوق، تكون الصحافة تعبيرا عن ديناميات حقيقية في المجتمع، تُحمى بسلطة القانون والتزام السلطة بالقانون، وتكون قد حسمت مع حقّ الجمهور في أن يعرف أكثر، لا أن تكون الصحافة وسيلة تغطية وتعمية لصالح السلطة. أما إن تحدثنا عن الإعلام العمومي، فإنه ملكٌ للمجتمع، لا حكراً على الدولة ورؤيتها، مادام مموّلا من جيوب كل المواطنين.
قصارى القول
بعض التوتر بين الصحافيين دليلُ حيوية، ونوعٌ من المقاومة، وجزءٌ منه رفضٌ لعبثٍ جارٍ. ولحظة يتوقّف يجب أن ندرك أن التطبيع مع الإسفاف تمّ، وأن الاستسلام للسلطويات السياسية والاقتصادية والأمنية تحقّق، وأننا وصلنا في المغرب مرحلة انتفاء “الصحافات” إلى تكريس صحافةٍ واحدة تتعدّد مسمياتها وعناوينها، لكنها كلها تؤدي وظيفة “الكورال” على هامش لحن السلطة.
لا أتمنى اشتعال النيران بين الإعلاميين، لكن ارتفاع الحرارة في جسد الصحافة من العوارض “الصحيّة” لمرضها، ودليلٌ على اشتغال جهاز مناعتها. أمّا برود الأجساد وتصلّب الأطراف، فمؤشّر على الموت.