“شكرا بشار الأسد”
كان سقوط نظام بشار الأسد في سوريا مفاجئا بالشكل الذي جرى به. كل شيء تمّ بسرعة خاطفة حين بدت الطريق سالكةً أمام قوى المعارضة المسلحة للوصول إلى دمشق، وقد سقطت المحافظات واحدة تلو أخرى.
سقط نظام بشار الأسد غير مأسوف عليه. بل إن كل الأسف أنه استمر كل هذه العقود، ما سمح ببقاء سوريا رهينةً للوحشية التي حوّلت البلد إلى معتقل كبير، وسمح باستمرار مأساة معتقلين فقدوا الشعور بالزمن والمكان في قبضة الدمويين، وقد تكشّفت بشاعة فاقت الخيال بشأن ما يمكن أن يفعله المستبّدون بالشعوب.
وإنْ تفاجأ العالم بسرعة هذا السقوط لحاكم مستبد مَثَّل عصارة القُبح في أن يكون الإنسان حاكماً، كانت أنقرة وحدها لربما مُدركة لما يجري، وممسكة بكثير من خيوط الحركة الخاطفة، وقد حرّكت امتداداتها المسلحة في الشمال السوري، مستغلة وضعا إقليميا مواتياً، عنوانه انشغالٌ بحرب إبادة دخلت مرحلة “الحلقة المفرغة” في غزة وتداعياتها، وورطةٌ إيرانية تواجه فيها طهران تحديات كبيرة بعد الهجمات الإسرائيلية وتغيير الإدارة الأميركية بعودة الجمهوريين وفقدان مواقع متقدمة في نفوذها الإقليمي، وضعفٌ غير خافٍ وارتباك يعيشه حزب الله الذي كان أحد داعمي بشار، وأيضا دخول روسيا مرحلة السرعة النهائية في حرب أوكرانيا قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025 وإمكانية ممارسته ضغوطا لوقف الحرب “حيث انتهت”. دون استبعاد سياق الفوضى الإقليمية العارمة حيث تظهر إسرائيل فاعلا يخوض حروبا ومواجهات على أكثر من جبهة وقتما يجري الترتيب لتكون سيدةً للمنطقة، في مقابل استقالة وخضوع للنظام العربي وعجزه عن إنتاج أي فعلٍ في كل القضايا.
الآن، سوريا دخلت مرحلة جديدة، عنوانها الأساس الخلاص من حكم بشار الكيمياوي، ونظام آل الأسد الأسود. دخلت مسارا جديدا، وبالكاد صدّق السوريون، الأحد 8 دجنبر، أن الديكتاتور فرّ في جنح الظلام تاركاً خلفه الخراب. ولئن كان التخلص من نظام بشار الأسد مُكلفا، بتهجير نصف الشعب وتقسيم البلد إلى دويلات طوائف، واستباحة سيادته من “كل دول العالم”، فإن التحدي الأكبر سيكون إعادة بناء الدولة والإعمار والانتقال من الفوضى التي تغرق فيها سوريا إلى وضعية الدولة الواحدة الموحدة.
وسيكون في الأمر قلّة لياقةٍ أن ينتصب العالم للتنظير وتقديم الفتاوى السياسية للسوريين بشأن ما يجب أن تكون عليه دولتهم، وقتما تخلى كل هذا العالم عن مأساتهم على امتداد عقود، قبل أن يثور الشعب على الظلم، وتدخل سوريا حرباً أهلية/ دولية، ارتكب خلالها نظام الأسد بشاعات لم تمنع دولا عربية، في الفترة الأخيرة، من إعادة تعويمه في الجامعة العربية، بدفعٍ إماراتي سعودي واضح، وحماسة جزائرية.
وإن من يتخوّف من سوريا القادمة يجب ألا يخرج من باله، وجوباً، السؤال عن أين كانت البلاد خلال الحقبة السوداء لآل الأسد، لأنه يُفترض ألا يكون مقبولا من السوريين أنفسهم قبل غيرهم، وبعد كل التضحيات الجسيمة، والانتهاكات الفظيعة، إنتاج ديكتاتورية جديدة. مع الإقرار أن السوريين يواجهون اليوم مشهدا بالغ التعقيد تتداخل فيه الأبعاد المحليّة والإقليمية والدولية، وبعضه مرتبط بمكونات المعارضة المسلحة وقادتها، خاصة ذلك الذي تحوّل، بسرعة البرق، من الجولاني إلى أحمد الشرع “مُنَقّحاً ومزيداً ومشذّب اللحية” بعد كثير انتقالات بين التنظيمات المتشدّدة تثير أكثر من سؤال وشكّ. وهذا من سلبيات التوْقِ المحموم للتخلّص من الديكتاتورية، حيث لا يلتفت الناس إلى بديلها.
وعلى كل حال، لربما يجب أن نترك شأن سوريا للسوريين، مع اكتفاءٍ بالتنبيه إلى أمور كليّةٍ، من قبيل الدعوة إلى وحدة سوريا، والقطع مع الاستبداد والديكتاتورية، والتأسيس لبلد كل السوريين بكل طوائفهم وأديانهم وإثنياتهم، واحترام حقوق الأقليّات، وغيرها ممّا لا قيام لبلد ديمقراطي بدونه. أما الاستمرار في اعتبار سوريا شأناً دولياً، فيعني إبقاء كل أصابع التدخّل محشورة فيها تعبث بمستقبل السوريين. علما أنّ هذا التدخّل هو تحديدا ما حوّل ثورة السوريين من السلمية والمدنية ضد نظام سلطوي إلى حرب أهلية (وكونية مصغّرة)، دون إغفال مفاعيل قمع النظام للثورة.
أما ما يعني غير السوريين من سكان هذا الإقليم، لربما يكون مفيداً أن ننظر جيّدا في درس سلطوية آل الأسد، الذين اختطفوا سوريا أزيد من خمسين عاما، وكيف انتهوا.
إننا أمام درس تطبيقي بشأن مآل الأنظمة السلطوية في المنطقة المسماة عربيةً، والتي يشيع في كثير منها الاستبداد والفساد، وتسود فيها أنظمة ليس بينها وبين الديمقراطية (لا خير ولا إحسان)، ومع ذلك تتوهّم أنها باقية إلى أبد الآبدين، وإن أجرمت في حق شعوبها.
نظام الأسد قسّم وشرّد الشعب ونهب المقدرات تحت مقولات مواجهة الصهيونية وغيرها، فيما كانت اليد تبطش بالشعب في الداخل. والآن، توضّح أن فلسطين لا تُنصر بقتل الشعوب، وأن دماء السوريين وكل شعوب المنطقة ليست أرخص من دماء الفلسطينيين حتى يعتقد المستبدون أن قتلَ الناس مباحٌ تحت أكاذيب “المقاومة”. لم يكن يجوز بأي حال إغماض العين عن إجرام الأسد، فقط لأنه “يدعم” فلسطين (دون أن يُطلق ولو رصاصة واحدة على إسرائيل). السوريون كانوا دوما أصحاب حق في وطنهم، مثلما الفلسطينيون، وبشار الأسد ووالده تحت أزعومة “المقاومة” و”العروبة” ذبح عشرات الآلاف وهجّر الملايين وشرّد بلا عدّ. والمقاومة لأجل التحرر من الاحتلال شقيقةُ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. ومن ينتهك حقوق شعبه إنما كان يقاتل لحسابه، لا لحساب فلسطين.
ثم إن درس نظام الأسد الوحشي يُثبت أن قهر الشعوب ليس قدراً و”نهاية التاريخ”، وأن الشعب إن “سكت دَهْرا سينطق حرية”، وأن “الشعب إِذا يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر”، وإذا تحمّل وقبِل بالسلطوية في مرحلة من مراحل دهس حقوقه، فإنه سيعود لكنْس الظلم متى قدر ونضجت شروط انعتاقه، وحينها لا تنفع شعارات ولا أكاذيب، وقد تفشى كره الاستبداد وصار الحاكمُ مبغوضا بما اقترفت يداه، وإن نافقه بعضُ الناس وحواريون يعتاشون على فتاته.
درس سوريا يعلّمنا أن المطبّلين و”المشاة على بطونهم” لا يبنون أوطانا، وأنهم خلال تبييضهم لسواد الاستبداد والقهر إنما يُساهمون في “تغريقه” وتوريطه وهم يزوّرون الحقائق، بتحويل علامات الفقر إلى تنميةٍ مكذوبة، وتزييف الانتهاكات إلى مؤشرات حريةٍ مقموعة، وحين يقْلِبون واقع سحق المعارضات إلى شعارات الوحدة الوطنية، طمعاً أو رهباً.
درس سوريا يعلّمنا أن الحاكم يجب أن ينظر إلى مصلحة شعبه، وأن يكون الاهتمام بشؤون بلده أولى أولوياته، لا الارتهان وبيع الوطن للخارج، كما فعل بشار الذي قسّم سوريا إلى دويلات، وقبِل على نفسه أن يكون محكوما من موسكو وطهران ليستمرّ “حاكما”، رافضا أي حلّ سياسي مع أبناء شعبه لإعادة صياغة الوطن الجامع، قبل أن ينقطع الحبْل القصير للحماية الخارجية، ويسقط “قبل أن يَرْتَدَّ إليه طرفه”.
سوريا تعلمنا أن التغيير الهادئ والإصلاح المتدرّج أضْمنُ من كثير من الثورات والانتقالات الفجائية في لحظات حراك الشعوب، وأنت التعنّت طريق سيّار لخراب الأوطان. بشار الأسد رفض الحراك السلمي في 2011، وأجهض كل محاولات التفاوض السياسي لأجل سوريا الجديدة، ورفض كل مسارات التوافق، لينتهي طريداً فـ”بلادات الناس”، وترك البلد في يد “الجولاني المنقلِبٍ سريعا إلى الشرع”، ولا أحد يعرف ما يخبّئ القادم، وإن بدا أنه لن يكون أسوأ من إجرام نظام الأسد. ( وانظر ما أتعس حظَّ الشعب حين يضطر أن يختار بين السيء والأكثر سوءاً).
درس سوريا يعلّمنا أنه حين يجِدُّ جدّ الشعوب، سيقف الحاكم عارياً وحيدا مكشوفا ذليلاً، ولن ينفعه كل من احتمى بهم واحتموا به في نظام الاستبداد. سيتبخّر داعمو السلطوية في الهواء كأنهم لم يكونوا بعدما زوّقوا للحاكم ظلمه، وسيختفي الضباط والسياسيون والفنانون الفاسدون والإعلاميون المدلّسون ورجال الأعمال الجشعون.. سيذهب كل واحد من هؤلاء إلى حيث راكمَ الثروة المتأتيّة من النظام الفاسد، وسيتخلّون عن بعضهم، وسيشنّعون ببعضهم وبالمخلوع ونظامه، وسيروّجون أكاذيب أنهم “لم يكونوا يعلمون”، وأفضلهم سيعتذر لأنه “وقف في المكان الخطأ من الوطن”.
درس سوريا يعلّمنا أن الشعب هو من يحمي الحاكم العادل، لا الطائفة ولا العائلة ولا الموالون المنافقون. يعلمنا أن الحاكم يجب أن يكون حاكماً لكل الشعب ساهرا على شؤونه بوطنية، قاطعا مع التمييز. وبشار أسس دولةَ الطائفة وجرّها معه إلى عار الاضطهاد للأغلبية، فكانت نتيجة كل هذا العار والإجرام.
درس سوريا يعلّمنا أن البقاء للشعوب مهما تسلّط المتسلطون، وأنه يذهب حاكمٌ ويأتي حاكمٌ، وأن الشعبَ باقٍ. وأنّى لحاكم أن يُبيد كل الشعب.
يعلمنا درس سورية أن الظلم مظالمٌ وظلماتٌ في صفحات التاريخ، وأن “تسبيح المسبّحين” باسم الحاكم المستبد لا يمكن أن يمحي واقع القهر. ورمي الناس في المعتقلات لعشرات السنوات دون محاكمات، وتعذيبهم وتغييبهم، سيظهر يوماً مهما سعى المستبدون إلى إخفائه. ووحده من يظنّ أنه باقٍ لا يزول يمكن أن يتوهّم أنه لن ينفضح.
يعلمنا درس سوريا أنّ شعوب منطقتنا تستحق الحرية، وأنها تريد الحرية، وأنها تعافُ الاستبداد. وإن تحمّل السوريين المُعْجز للظلم والثورة عليه يؤكد أن الناس لا تعيش بالخبز وحده. الحرية هواءُ الأمم. وأمّا أن يكون الحاكم متسلّطا، فوق ذلك لا يضمن حتى الخبز، فتلك طامة.
يعلّمنا درس سوريا أن التاريخ يمنحُ أي حاكم مستبدٍ نافذةً لإنقاذ نفسه وإعفاء شعبه من مسارات مظلمة. وأن الحكمة في أن يكون الحاكم حاكما جيّدا قادرا على تقديم الجواب الصحيح والسريع رداً على دعوات الناس للإصلاح. وإن لم يكن حاكما جيدا، فلا أقلّ من أن يكون “حاكما عاقلا” يعرفُ الوقت الصحيح لقول (أنا فهمتكم)، وليس بعد فوات الأوان. كان يمكن لبشار الأسد أن يتخذ القرار الصواب في الوقت الصحيح، وأن يفتح لسوريا باباً كبيرا نحو مستقل أفضل مما توجد عليه اليوم، لا أن يقضي أربعة عشر عاما في رمي الناس بالبراميل المتفجّرة وقصفهم بالكيماوي كأنه “خالدٌ فيها”، ثم يفرّ في جنح الظالم نحو كفيله في موسكو.
قصارى القول
بشار الأسد لا يستحق أي شكر. شكرا لدروس سوريا. مكان بشار المحاكمة على ما اقترف نظامه، وعلى انتهاكاته البشعة، كما ظهر في سجن صيديانا وسجن فرع فلسطين (ما أوقحه وهو يربط وحشيته برمزية فلسطين المقاومة ضد الظلم). بشار الأسد لا يستحق أي شكر وقد ترك وراءه دمارا لا يليق بشام الحضارة. بشار مكانه السجن ليكون عبرةً لكل مستبدّ، ولتتحقّق العدالة لضحاياه. لكن في مسارات نظامه وإجرامه دروس يجب قراءاتها لمستقبل أفضل لشعوب هذا الإقليم، الذي يزعم الزاعمون أنه لا يستحق الديمقراطية، وأنه لا يليق به إلا المستبدون، ولا قدرَ له إلا أن يعيش وفي عُنقه رِبْقة الصهيونية، مستسلماً بلا مقاومة. كان بشار، وقبله قذافي ليبيا، وصدام العراق، ومبارك مصر، وبن علي تونس، وبشير السودان.