شكرا..
أجدني للمرة الثانية منذ واقعة الوفاة المفجعة للراحل عبد العزيز النويضي وهو في موقع الضيف المستجوَب، مضطرا للكتابة من جديد عن هذا الحدث الأليم، بعدما عقدت العزم منذ ليلة أمس على طي الصفحة وتجاوز الصدمة واستئناف إيقاع العمل الطبيعي.
أعود لا لكشف جديد أو التعبير عن أمر مختلف، بل لغرض واحد هو أن نقول: شكرا.
شكرا للخالق أولا، أن قدّر علينا هذا المصاب دون سابق تأهب ولا استعداد، ورزقنا في الوقت نفسه القوة لتحمّله والصبر عليه والثبات خلاله والقدرة على تدبيره دون إفراط ولا تفريط (هذا شعورنا على الأقل).
وشكرا له أن خصّنا بهذه التجربة الصعبة التي أعادت تعريف الموت في أعيننا وقدّمته لنا بشكل لم تكن عقولنا ولا قلوبنا قادرة على إدراكه مهما اجتهدت وتعلّمت وتدبّرت. الموت أبسط بكثير أيها الأصدقاء مما نعتقد. الموت لا يرتبط بالضرورة كما نعتقد بالأحداث الخطيرة والأمراض المعقدة والفيروسات والحوادث والكوارث الطبيعية والصواريخ… الموت قادر على إدراكك دون سابق إنذار ولا مقدمات ولا انتظار… الموت فعلا حقيقة، بل هو وحده الحقيقة.
شكرا أخرى للأهل والأقارب والأصدقاء والزملاء والمعارف، ممن أزعجناهم لحظة الابتلاء ومن بادروا بالاتصال والدعم والمساندة بعد علمهم بالخبر.
شكرا للكرماء والفضلاء ممن أثبتوا لنا أننا في هذه المهنة ننسج أكثر من مجرد علاقات مهنية، نفعية، مصلحية، علاقة تبادل للخدمات كزملاء أو زبناء أو مصادر وصحافيين… بل هناك الإنسان وهناك السند وهناك المشاعر الطيبة والعطاء المجاني.
شكرا لكل من ساند قبل التأكد من مفارقة روح المرحوم النويضي لجسده، ومن دعّموا بعد ذلك.
وشكرا لكل أصدقاء ورفاق الراحل من محامين وحقوقيين وسياسيين، ممن أفزعناهم باتصالات النجدة التي قمنا بها بحثا عن معلومة طبية أو معطى يسمح لنا بإنقاذه.
واعتذار خاص أجدني شخصيا مدينا به للنقيب عبد الرحيم الجامعي، الذي حملتني أنانيتي على إلقاء عبء الاتصال بأسرة الراحل وإخبارها بالنبأ الأليم عليه، اعتقادا مني أنه أقرب إليهم وأقدر على أداء المهمة بكل الحرص والحنوّ اللازمين، بينما هو نفسه كان في موقع مستحق التعزية والمواساة في فقدان صديقه ورفيق دربه في المحاماة.
شكرا أيضا لزملائنا وزميلاتنا في “صوت المغرب”، الرجال والنساء، الشبان والشابات، اللذين صمدوا وثبتوا وأعانوا كاتب هذه السطور ومديرة نشر الصحيفة، الزميلة حنان بكور، على تدبيرها بكل ما تستحق من رزانة وتعقّل وحرص على حقوق جميع الأطراف، بدءا بكرامة الراحل نفسه ومشاعر أسرته وصولا إلى حق الجمهور والرأي العام في المعلومة الدقيقة والمتوازنة.
نقول شكرا لزملائنا بما أن هذه المهنة باتت حرفة الأيتام، لا سند مؤسساتي ولا هيئات مهنية ولا دعم نفسي لأفراد جريدة وجدوا أنفسهم فجأة يستضيفون روحا ترتقي إلى بارئها.
لا عليكم يا زملاء، كنتم أقوياء وشرفاء ومهنيين، صبرتهم ليلتها واستجبتم لخطابنا صبيحة اليوم الموالي بأن اثبتوا وأدوا الأمانة التي وضعها القدر بين أيديكم، فلم تهنوا ولم تخيّبوا رجاءنا.
شكرا لأنكم قدّمتم مثالا راقيا في الجمع بين وظيفة الإخبار وواجب حماية كرامة الراحل وعدم استغلال صورته في إثارة أو متاجرة.
شكر خاص أيضا لعناصر الوقاية المدنية الذين تدخلوا لحظة استنجادنا. لن أنسى لهم أبدا حضورهم السريع، وسلوكهم الإنساني، وفعالية وسرعة تدخلهم الذي ربما لم يتجاوز الدقيقة بين لحظة دخولهم على الراحل الممدد فوق أريكة وانطلاقهم به نحو المستشفى، ولكل ما بذلوه من جهد في الطريق لمحاولة إنعاش قلب العزيز النويضي.
وشكرا أيضا لضباط وعناصر الأمن، بدءا من الرجل الذي أخرجته من قلب مهمته وسط الملتقى الطرقي المجاور، لأدعوه بكلماتي المتقطعة الفزعة إلى أطلاق النداء لاستعجال التدخلات الممكنة في مثل هذه المصائب، ووصولا إلى الضباط الذين عاينوا ووثقوا وأنهوا إنجاز المحاضر بعد منتصف تلك الليلة، حتى تتمكن أسرة الراحل من مباشرة إجراءات الدفن دون تأخير.
شكرا أيضا لقرائنا وجمهورنا ومشاهدينا الذين تحمّلوا منا فزعنا وتوتّرنا وانهمار سيل عواطفنا، وتقبلوا منا تريّثنا واقتصادنا في النشر، بما في ذلك حوارنا المسجل مع الراحل عبد العزيز النويضي، والذي حرصنا على عدم نشره قبل أن يستقر الجثمان في مثواه الأخير، وعملنا على إخفاء لحظة النوبة القلبية منذ بوادرها الأولى، ولم نُطلع عليها إلا ضباط الشرطة القضائية الذين وإن قاموا بتصويرها من شاشات حواسيبنا فإنهم كانوا في مهمتهم القانونية المحاطة بضمانات السر المهني، فتفهّم جمهورنا تحفظنا في النشر رغم كل ما يقال عنه في عصر الإثارة والتفاهة والافتراس.
شكرا للجميع، لا أحزنكم الله، وعزاؤنا واحد…
إنا لله وإنا إليه راجعون.